المسيحيين وتوجههم إلى العلوم والصنائع منذ ثلاثمائة سنة. وهذا هو الفضل البديهي لأمة محمد صلىاللهعليهوسلم ولكتابهم.
الأمر الثاني عشر : الخشية التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماع القرآن ، والهيبة التي تعتري تاليه. وهذه الخشية قد تعتري من لا يفهم معانيه ولا يعلم تفسيره. فمنهم من أسلم لها لأول وهلة ، ومنهم من استمر على كفره ، ومنهم من كفر حينئذ ثم رجع بعده إلى ربه. روي أن نصرانيا مرّ بقارئ فوقف يبكي ، فسئل عن سبب البكاء ، فقال : الخشية التي حصلت له من أثر كلام الرب. وأن جعفرا الطيار ، رضي الله عنه ، لمّا قرأ القرآن على النجاشي وأصحابه ما زالوا يبكون حتى فرغ جعفر ، رضي الله عنه ، من القراءة. وأن النجاشي أرسل سبعين عالما من العلماء المسيحية إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقرأ عليهم سورة يس فبكوا وآمنوا ، فنزل في حق الفريقين أو أحدهما قوله تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [المائدة : ٨٣]. وقد عرفت حال جبير بن مطعم ، رضي الله عنه ، وعتبة وابن المقنع ويحيى بن حكم الغزالي. وقال نور الله الشوشتري في تفسيره أن العلّامة علي القوشجي لما راح من وراء النهر إلى الروم ، جاء إليه حبر من أحبار اليهود لتحقيق الإسلام ، وناظره إلى شهر وما سلم دليلا من أدلة العلّامة إلى هذا الحين. فجاء يوما وقت الصبح ، كان العلّامة مشتغلا بتلاوة القرآن على سطح الدار وكان كريه الصوت في الغاية ، فلما دخل الباب وسمع القرآن أثر القرآن في قلبه تأثيرا بليغا. فلما وصل إلى العلّامة قال إني أدخل في الإسلام ، فأدخله العلّامة في الإسلام ، ثم سأل عن السبب ، فقال : ما سمعت مدة عمري كريه الصوت مثلك ، فلما وصلت إلى الباب سمعت منك القرآن وقد حصل تأثيره البليغ فيّ فعلمت أنه وحي. فثبت من الأمور المذكورة أن القرآن معجز وكلام الله. كيف لا ، وحسن الكلام يكون لأجل ثلاثة أشياء : أن تكون ألفاظه فصيحة ، وأن يكون نظمه مرغوبا ، وأن يكون مضمونه حسنا. وهذه الأمور الثلاثة متحققة في القرآن بلا ريب.
ونختم هذا الفصل ببيان ثلاث فوائد :
الفائدة الأولى : سبب كون معجزة نبيّنا من جنس البلاغة أيضا ، أن بعض المعجزات تظهر في كل زمان من جنس ما يغلب على أهله أيضا ، لأنهم يبلغون فيه الدرجة العليا ، فيقفون فيه على الحدّ الذي يمكن للبشر الوصول إليه. فإذا شاهدوا ما هو خارج عن الحدّ المذكور ، علموا أنه من عند الله. وذلك كالسحر في زمن موسى عليهالسلام ، فإنه كان غالبا على أهله وكاملين فيه. ولما علم السحرة الكلمة أن حد السحر تخييل لما لا ثبوت له حقيقة ، ثم رأوا