عصاه انقلبت ثعبانا يتلقف سحرهم الذي كانوا يقلبونه من الحق الثابت إلى المتخيل الباطل من غير أن يزداد حجمها ، علموا أنه خارج عن السحر ومعجزة من عند الله ، فآمنوا به. وأما فرعون فلما كان قاصرا في هذه الصناعة ظن أنه سحر أيضا ، وإن كان أعظم من سحر سحرته.
وكذا الطب لما كان غالبا على أهل زمن عيسى عليهالسلام وكانوا كاملين فيه ، فلما رأوا إحياء الميت وإبراء الأكمه علموا بعلمهم الكامل أنهما ليسا من حدّ الصناعة الطبية ، بل هو من عند الله. والبلاغة قد بلغت في عهد الرسول عليهالسلام إلى الدرجة العليا ، وكان بها فخارهم ، حتى علقوا القصائد السبع بباب الكعبة تحديا بمعارضتها ، كما تشهد به كتب السير. فلما أتى النبيّ صلىاللهعليهوسلم بما عجز عن مثله جميع البلغاء ، علم أن ذلك من عند الله قطعا.
الفائدة الثانية : نزول القرآن منجما ومفرقا ولم ينزل دفعة واحدة بوجوه : أحدها : ان النبيّ صلىاللهعليهوسلم لم يكن من أهل القراءة ، فلو نزل عليه ذلك جملة واحدة كان لا يضبطه ولجاز عليه السهو. ثانيها : لو أنزل الله عليه الكتاب دفعة فربما اعتمد على الكتّاب وتساهل في الحفظ. فلما أنزله الله منجما حفظه وبقي سنّة الحفظ في أمته. وثالثها : في صورة نزول الكتاب دفعة. لو كان نزول جميع الأحكام دفعة واحدة على الخلق لكان يثقل عليهم ذلك ولما نزل مفرقا لا جرم نزلت التكاليف قليلا قليلا فكان تحملها أسهل كما روي عن بعض الصحابة ، أنه قال : لقد أحسن الله إلينا كل الإحسان. كنا مشركين ، فلو جاء رسول الله بهذا الدين جملة وبالقرآن دفعة لثقلت هذه التكاليف علينا ، فما كنا ندخل في الإسلام ، ولكنه دعانا إلى كلمة واحدة. فلما قبلناها وذقنا حلاوة الإيمان ، قبلنا ما وراءها كلمة بعد كلمة ، إلى أن تمّ الدين وكملت الشريعة. ورابعها : انه إذا شاهد جبريل حالا بعد حال يقوى قلبه بمشاهدته. فكان أقوى على أداء ما حمل ، وعلى الصبر على عوارض النبوّة ، وعلى احتمال أذية القوم. وخامسها : انه لما تمّ شرط الإعجاز فيه ، مع كونه منجما ، ثبت كونه معجزا. فإنهم لو قدروا لوجب أن يأتوا بمثله منجما مفرقا. وسادسها : كان القرآن ينزل بحسب أسئلتهم والوقائع الواقعة لهم ، فكانوا يزدادون بصيرة. لأن الاخبار عن الغيوب كان ينضم بسبب ذلك إلى الفصاحة. وسابعها : ان القرآن لما نزل منجما مفرقا وتحداهم النبيّ صلىاللهعليهوسلم من أول الأمر ، فكأنه تحداهم بكل واحد من نجوم القرآن ، فلما عجزوا عنه كان عجزهم من معارضة الكل أولى. فثبت بهذا الطريق أن القوم عاجزون عن المعارضة لا محالة. وثامنها : ان السفارة بين الله وبين أنبيائه وتبليغ كلامه إليهم منصب عظيم ، فلو نزل القرآن دفعة واحدة كان زوال هذا المنصب عن جبريل عليهالسلام محتملا ، فلما نزل مفرقا منجما بقي ذلك المنصب العظيم عليه.