وثمانين من الهجرة. وقد عرفت في الأمر الثاني من الفصل الأول أن قول النظام مردود ، وما قال أبو موسى ـ الملقب بمزدار راهب المعتزلة ـ ان الناس قادرون على مثل هذا القرآن فصاحة ونظما وبلاغة فهو مردود أيضا كقول النظام. على أن مزدار هذا كان رجلا مجنونا استولت على دماغه اليبوسة بسبب كثرة الرياضة ، فهذى بأمثال هذه الهذيانات كثيرا. مثلا كان يقول أن الله قادر على أن يكذب ويظلم ولو فعل لكان إلها كاذبا ظالما ، وأن من لا بس السلطان كافر لا يرث ولا يورث منه ، وقوله يلزم أن يكون جميع الكتب إلخ غير مسلم ، لأن هذه الكتب لم تثبت بلاغتها في الدرجة القصوى باعتبار الوجوه التي ذكرها في الأمر الأول والثاني من الفصل الأول ، ولم يثبت ادّعاء مصنفيها بالإعجاز ولا عجز فصحاء هذه الألسن عن معارضتها. فإن ادّعى أحد هذه الأمور بالنسبة إلى هذه الكتب فعليه الإثبات ، وإلّا فلا بدّ أن يمتنع عن مثل هذا الادعاء الباطل.
على أن شهادة بعض المسيحيين في حق الكتب المذكورة بأنها في هذه الألسن مثل القرآن في اللسان العربي في الدرجة العليا من البلاغة ، غير مقبولة ، لأنهم إذا لم يكونوا من أهل اللسان فلا يميّزون غالبا في لسان الغير بين المذكر والمؤنث ، ولا بين المفرد والتثنية والجمع ، ولا بين المرفوع والمنصوب والمجرور ، فضلا عن أن يميّزوا الأبلغ عن البليغ. وعدم تميزهم هذا لا يختص بالعربي ، بل فيه وفي العبراني واليوناني واللاطيني على طريقة واحدة. ومنشأ عدم التمييز سذاجة كلامهم ، سيما إذا كان هذا البعض من أهل انكلتره. فإنهم يشاركون في هذه السذاجة غيرهم من المسيحيين ويمتازون عنهم بعادة أخرى أيضا وهي أنهم إذا عرفوا ألفاظا معدودة من لسان الغير يظنون أنهم تبحّروا في المعرفة ، وإذا تعلموا مسائل معدودة من علم يعدّون أنفسهم من علماء هذا العلم. والفرنساويون واليونانيون طاعنون عليهم في هذه العادة. ويشهد على الدعوى الأولى أن الأب سركيس الهاروني مطران الشام جمع بإذن البابا اربانوس الثامن كثيرا من القسيسين والرهبان والعلماء ومعلمي اللسان العبراني والعربي واليوناني وغيرها ليصلحوا الترجمة العربية التي كانت مملوءة بالأغلاط الكثيرة والنقصانات الغزيرة ، فاجتهدوا في هذا الباب اجتهادا تاما في سنة ألف وستمائة وخمس وعشرين من الميلاد ، فأصلحوا. لكنه لما بقي بعد الإصلاح التام في تراجمهم النقصانات التي هي لازمة لسجية المسيحيين اعتذروا عنه في المقدمة التي كتبوها في أول تلك الترجمة. فانقل عذرهم عن المقدمة المذكورة بعبارتهم وألفاظهم وهي هذه : «ثم أنك في هذا النقل تجد شيئا من الكلام غير موافق قوانين اللغة بل مضادا لها ، كالجنس المذكر بدل المؤنث ، والعدد المفرد بدل الجمع ، والجمع بدل المثنى ، والرفع مكان الجر ، والنصب في الاسم ،