وإن كان ضروريا ، نقصا وانحطاطا من رفيع كماله. فكان يستغفر الله من ذلك طلبا للمقام الأعلى. فكان هذا الشغل الضروري أيضا عنده بمنزلة الذنب الذي لا بدّ أن يستغفر عنه بالنسبة إلى أعلى حاله أو كان صدور مثل هذا الدعاء بمقتضى العبودية كما أن عيسى عليهالسلام بمقتضى العبودية نفى الصلاح عن نفسه واعترف بالخطايا عند الاعتماد ، ودعا مرارا باغفر لنا ذنوبنا وتفوه بهذه الجمل : إلهي إلهي لما ذا تركتني ـ وتباعد عني خلاصي بكلام جهلي ـ إلهي بالنهار أدعوك فلم تستجب لي. أو كان هذا الدعاء لأجل التعبد المحض؟ كما عرفت في الأمر الخامس. أو كان لأجل تعليم الأمة؟ أو أن الذنب المذكور فيها بمعنى الزلة ترك الأولى؟ كما عرفت في الأمر الثالث. وعلى كل تقدير لا يرد شيء. وهذه التوجيهات الخمسة تجري كلها أو بعضها في الأحاديث التي تكون مثل الحديث المذكور. وإذا لم يثبت من الآيات والأحاديث المذكورة التي استدل بها المعترض كون محمّد صلىاللهعليهوسلم مذنبا ثبت كذب الصغرى. وأما كذب الكبرى فلأن كليتها ممنوعة ، لأنها إما أن يثبتها المعترض بعندية أهل التثليث أو بالبرهان العقلي أو بالبرهان النقلي. فإن كان الأول فعنديتهم هذه لا تتم علينا ، كما لا تتمّ أكثر عندياتهم ، على ما عرفت في الفصل الثاني من الباب الخامس. وإن كان الثاني فعليهم بيان ذلك البرهان. وعلينا النظر في مقدماته وأنى لهم ذلك. ولا استبعاد في أن يغفر الله ذنوب واحد بلا واسطة ثم يقبل شفاعته في حق الآخرين. على أن قبح الذنب عقلا ما لم يغفر ، فإذا غفر لا يبقى قبحه لوجه ما. وقد يوجد التصريح في الآية الثالثة التي نقلوها بزعمهم الفاسد لإثبات الذنب بأن قال : «ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر». فإن صارت ذنوب محمّد صلىاللهعليهوسلم متقدمة كانت أو متأخرة مغفورة في هذه الدار الدنيا فما بقي شيء مانع في أن يكون شفيعا للآخرين في الدار الأخرى. وإن كان الثالث فغلط يقينا ألا ترى أن بني إسرائيل لما عبدوا العجل أراد الله أن يهلك الكل فشفع موسى عليهالسلام لهم ، فقبل الله شفاعته وما أهلك ، كما هو مصرّح به في الباب الثاني والثلاثين من سفر الخروج. ثم قال الرب لموسى : اذهب أنت وبنو إسرائيل إلى أرض كنعان وأنا لا أذهب معكم ، فشفع موسى ، فقبل الله شفاعته ، وقال أنا أذهب معك ، كما هو مصرّح به في الباب الثالث والثلاثين من سفر الخروج. ثم لما عصوا أراد الله مرة أخرى أن يهلكهم فشفع موسى وهارون عليهماالسلام ، فقبل الله شفاعتهما. ثم لما عصوا مرة أخرى أرسل الله عليهم حيات تلدغهم فجاءوا إلى موسى مستشفعين ، فشفع لهم ، فقبل الله شفاعته ، كما هو مصرّح به في الباب السادس عشر والباب الحادي والعشرين من سفر العدل. فلا استحالة عقلا ولا نقلا في كون محمّد صلىاللهعليهوسلم شفيع المذنبين. اللهم ابعثه مقاما محمودا الذي وعدته وارزقنا شفاعته يوم القيامة. وليكن هذا آخر الباب.