رَبِّ رَضِيًّا (٦)) [مريم] وقال في الطرف الآخر (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً (١٣)) [المائدة] وقال (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً (٢٥)) [الأنعام] وهذه الأكنّة والوقر هي شدة البغض والنفرة والإعراض التي لا يستطيعون معها سمعا ولا عقلا.
والتحقيق أنّ هذا ناشئ عن الأكنة والوقر ، فهو موجب ذلك ومقتضاه ، فمن فسّر الأكنة والوقر به ، فقد فسرهما بموجبهما ومقتضاهما ، وبكل حال فتلك النفرة والإعراض والبغض من أفعالهم ، وهي مجعولة لله سبحانه ، كما أنّ الرأفة والرحمة وميل الأفئدة إلى بيته هو من أفعالهم ، والله جاعله ، فهو الجاعل للذوات وصفاتها وأفعالها وإراداتها واعتقاداتها ، فذلك كله مجعول مخلوق له ، وإن كان العبد فاعلا له باختياره وإرادته.
فإن قيل : هذا كله معارض بقوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ (١٠٣)) [المائدة] والبحيرة والسائبة إنما صارت كذلك بجعل العباد لها ، فأخبر سبحانه أن ذلك لم يكن بجعله.
قيل : لا تعارض ـ بحمد الله ـ بين نصوص الكتاب ، بوجه ما ، والجعل هاهنا جعل شرعيّ أمريّ ، لا كونيّ قدريّ ، فإنّ الجعل في كتاب الله ينقسم إلى هذين (١) النوعين ، كما ينقسم إليهما الأمر والإذن والقضاء والكتابة والتحريم ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
فنفى سبحانه عن البحيرة والسائبة جعله الدينيّ الشرعي ، أي : لم يشرع ذلك ، ولا أمر به ، ولكن الذين كفروا افتروا عليه الكذب ، وجعلوا ذلك دينا له بلا علم ، ومن ذلك قوله تعالى : (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي
__________________
(١) تحرفت في المطبوع إلى : «هذه».