وتأليف القلوب جعل بعضها يألف بعضا ، ويميل إليه ويحبه ، وهو من أفعالها الاختيارية ، وقد أخبر سبحانه أنه هو الذي فعل ذلك لا غيره ، ومن ذلك قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ (١١)) [المائدة] فأخبر سبحانه بفعلهم وهو الهمّ ، وبفعله وهو كفّهم عما همّوا به ، ولا يصح أن يقال : إنه سبحانه أشلّ أيديهم ، وأماتهم ، وأنزل عليهم عذابا ، حال بينهم وبين ما همّوا به ، بل كفّ قدرهم وإرادتهم مع سلامة حواسهم وبنيتهم وصحة آلات الفعل منهم.
وعند القدرية هذا محال ، بل هم الذين يكفون أنفسهم. والقرآن صريح في إبطال قولهم ، ومثله قوله : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ (٢٤)) [الفتح] فهذا كفّ أيدي الفريقين مع سلامتهما وصحتهما ، وهو بأن حال بينهم وبين الفعل ، فكفّ بعضهم عن بعض.
ومن ذلك قوله تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ (٥٣)) [النحل] والإيمان والطاعة من أجلّ النعم ، بل هما أجلّ النعم على الإطلاق ، فهما منه سبحانه تعليما ، وإرشادا وإلهاما وتوفيقا ومشيئة وخلقا. ولا يصح أن يقال : إنها أمرا وبيانا (١) فقط ، فإن ذلك حاصل بالنسبة إلى الكفار والعصاة ، فتكون نعمته على أكفر الخلق كنعمته على أهل الإيمان والطاعة والبر منهم ، إذ نعمة البيان والإرشاد مشتركة ، وهذا قول القدرية ، وقد صرح به كثير منهم ، ولم يجعلوا لله على العبد نعمة ، في مشيئتة وخلقه فعله وتوفيقه إياه حين فعله ، وهذا من قولهم الذي باينوا به جميع الرسل والكتب ، وطردوا ذلك حين لم يجعلوا لله على العبد منّة في إعطائه الجزاء ، بل قالوا : ذلك محض حقه الذي لا منة لله
__________________
(١) الأصل أن تكون (أمر وبيان) كونها خبرا لإن ، لكنه ألحقها بما سبق من قوله : تعليما وإرشادا ... ، أو أن كلمة ما سقطت ، مثل جاءت ، كانت.