والتخلية بين المرسل وبين ما أرسل عليه من لوازم هذا المعنى ، ولا يتم التسليط إلا به ، فإذا أرسل الشيء الذي من طبعه وشأنه أن تفعل فعلا ، ولم تمنعه من فعله ، فهذا هو التسليط ، ثم إن القدرية تناقضوا في هذا القول ، فإنهم إن جوّزوا منعهم منهم وعصمتهم وإعادتهم ، فقد نقضوا أصلهم ، فإنّ منع المختار من فعله الاختياري ، مع سلامة النية وصحة بنيته ، تدلّ على أنّ فعله وتركه مقدور للرب ، وهذا عين قول أهل السنة ، وإن قالوا : لا يقدر على منعهم وعصمهم منهم وإعادتهم ، فقد جعلوا قدرتهم ومشيئتهم بفعل ما لا يقدر الرب على المنع منه ، وهذا أبطل الباطل.
ثم قالت القدرية : تؤزهم أزا : تأمرهم بالمعاصي أمرا ، وحكوا ذلك عن الضحاك ، وهذا لا يلتفت إليه ، إذ لا يقال لمن أمر غيره بشيء ، قد أزّه ، ولا تساعد اللغة على ذلك ، ولو كان ذلك صحيحا لكان يؤز المؤمنين أيضا ، فإنه يأمرهم بالمعاصي أكثر من أمر الكافرين ، فإن الكافر سريع الطاعة والقبول من الشيطان ، فلا يحتاج من أمره ما يحتاج إليه من أمر المؤمنين ؛ بل يأمر الكافر مرة ، ويأمر المؤمن مرات ، فلو كان الأزّ الأمر ، لم يكن له اختصاص بالكافرين.
فصل
ومن ذلك قوله تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلهِ النَّاسِ (٣) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (٤) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٦)) [الناس] وقوله : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨)) [المؤمنون] وقوله : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ