لم تشمّ له رائحة ، فإذا وضعته على الأرض ، أقبلت النملة من مكان بعيد إليه ، فإن عجزت عن حمله ، ذهبت وأتت معها بصف من النمل ، يحتملونه ، فكيف وجدت رائحة ذلك من جوف بيتها حتى أقبلت بسرعة إليه؟! فهي تدرك بالشّمّ من البعد ما يدركه غيرها بالبصر أو بالسمع ، فتأتي من مكان بعيد إلى موضع أكل فيه الإنسان ، وبقي فيه فتات من الخبز أو غيره ، فتحمله وتذهب به ، وإن كان أكبر منها ، فإن عجزت عن حمله ، ذهبت إلى جحرها ، وجاءت معها بطائفة من أصحابها ، فجاءوا كخيط أسود ، يتبع بعضهم بعضا حتى يتساعدوا على حمله ونقله ، وهي تأتي إلى السنبلة ، فتشمها ، فإن وجدتها حنطة ، قطعتها ومزقتها وحملتها ، وإن وجدتها شعيرا فلا ، ولها صدق الشم وبعد الهمة وشدة الحرص والجرأة على محاولة نقل ما هو أضعاف أضعاف وزنها.
وليس للنمل قائد ورئيس يدبرها كما يكون للنحل إلا أنّ لها رائدا يطلب الرزق ، فإذا وقف عليه ، أخبر أصحابه ، فيخرجن مجتمعات ، وكلّ نملة تجتهد في صلاح العامة منها غير مختلسة من الحبّ شيئا لنفسها دون صواحباتها.
ومن عجيب أمرها أن الرجل إذا أراد أن يحترز من النمل ، لا يسقط في عسل أو نحوه ، فإنه يحفر حفيرة ، ويجعل حولها ماء ، أو يتخذ إناء كبيرا ، ويملؤه ماء ، ثم يضع فيه ذلك الشيء ، فيأتي الذي يطيف به ، فلا يقدر عليه ، فيتسلق في الحائط ، ويمشي على السقف إلى أن يحاذي ذلك الشيء ، فتلقي نفسها عليه ، وجربنا نحن ذلك ، وأحمى صانع مرة طوقا بالنار ، ورماه على الأرض ليبرد ، واتفق أن اشتمل الطوق على نمل ، فتوجه في الجهات ليخرج ، فلحقه وهج النار ، فلزم المركز ووسط الطوق ، وكان ذلك مركزا له ، وهو أبعد مكان من المحيط.