يستطعم الفرخ ، فزقّاهما.
فانظر إلى هذه الهداية ، فإن المقصوصين لما شاهدا تلطف الفراخ للأبوين ، وكيف يستطعمانهما إذا اشتد بهما الجوع والعطش ، فعلا كفعل الفرخين ، فأدركتهما رحمة الطيارين ، فزقاهما كما يزقان فرخيهما.
ونظير ذلك ما ذكره الجاحظ وغيره ، قال الجاحظ ، وهو أمر مشهور عندنا بالبصرة : إنه لما وقع الطاعون الجارف ، أتى على أهل دار ، فلم يشك أهل تلك المحلة أنه لم يبق منهم أحد ، فعمدوا إلى باب الدار فسدّوه ، وكان قد بقي صبيّ صغير يرضع ، ولم يفطنوا له ، فلما كان بعد ذلك بمدة ، تحول إليها بعض ورثة القوم ، ففتح الباب ، فلما أفضى إلى عرصة الدار ، إذا هو بصبيّ يلعب مع جراء كلبة ، قد كانت لأهل الدار ، فراعه ذلك ، فلم يلبث أن أقبلت كلبة قد كانت لأهل الدار ، فلما رآها الصبيّ حبا إليها ، فأمكنته من أطبائها ، فمصّها. وذلك أنّ الصبيّ لما اشتد جوعه ، ورأى جراء الكلبة يرتضعون من أطباء الكلبة ، حبا إليها ، فعطفت عليه ، فلما سقته مرة أدامت له ذلك ، وأدام هو الطلب ، ولا يستبعد هذا وما هو أعجب منه ، فإنّ الذي هدى المولود إلى مصّ إبهامه ساعة يولد ، ثم هداه إلى التقام حملة ثدي ، لم يتقدم له به عادة ، كأنه قد قيل له : هذه خزانة طعامك وشرابك التي كأنك لم تزل بها عارفا. وفي هدايته للحيوان إلى مصالحه ما هو أعجب من ذلك.
ومن ذلك أن الديك الشاب إذا لقي حبا ، لم يأكله حتى يفرقه ، فإذا هرم وشاخ ، أكله من غير تفريق ، كما قال المدائني : إن إياس بن معاوية مر بديك ينقر حبا ، ولا يفرقه ، فقال : ينبغي أن يكون هرما ، فإنّ الديك الشاب يفرق الحب ، ليجتمع الدجاج حوله ، فتصيب منه ، والهرم قد فنيت رغبته ، فليس له همّة إلا نفسه. قال إياس : والديك يأخذ الحبة ، فهو يريها الدجاجة حتى يلقيها من فيه ، والهرم يبتلعها ، ولا يلقيها للدجاجة.