فصل
المرتبة الثانية من مراتب الهداية : هداية الإرشاد والبيان للمكلفين ، وهذه الهداية لا تستلزم حصول التوفيق واتّباع الحق ، وإن كانت شرطا فيه ، أو جزء سبب ، وذلك لا يستلزم حصول المشروط والمسبب ، بل قد يتخلّف عنه المقتضى ، إما لعدم كمال السبب ، أو لوجود مانع ، ولهذا قال تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى (١٧)) [فصلت] قال (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ (١١٥)) [التوبة] فهداهم هدى البيان والدلالة ، فلم يهتدوا ، فأضلّهم عقوبة لهم على ترك الاهتداء أولا ، بعد أن عرفوا الهدى ، فأعرضوا عنه ، فأعماهم عنه ، بعد أن أراهموه ، وهذا شأنه سبحانه في كل من أنعم عليه بنعمة ، فكفرها ، فإنه يسلبه إياها ، بعد أن كانت نصيبه وحظه ، كما قال تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ (٥٣)) [الأنفال].
وقال تعالى عن قوم فرعون (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا (١٤)) [النمل] أي : جحدوا بآياتنا بعد أن تيقّنوا صحتها.
وقال : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦)) [آل عمران] وهذه الهداية هي التي أثبتها لرسوله حيث قال : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢)) [الشورى] ونفى عنه ملك الهداية الموجبة ، وهي هداية التوفيق والإلهام بقوله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ (٥٦)) [القصص] ولهذا قال صلىاللهعليهوسلم : بعثت داعيا ومبلّغا ، وليس إليّ