فصل
فإن قيل : فإذا جوّزتم أن يكون الطبع والختم والقفل عقوبة وجزاء ، على الجرائم والإعراض والكفر السابق على فعل الجرائم. قيل : هذا موضع يغلط فيه أكثر الناس ، ويظنون بالله سبحانه خلاف موجب أسمائه وصفاته. والقرآن من أوله إلى آخره إنما يدلّ على أنّ الطبع والختم والغشاوة لم يفعلها الرب سبحانه بعبده من أول وهلة ، حين أمره بالإيمان أو بيّنه له ، وإنما فعله بعد تكرار الدعوة منه سبحانه ، والتأكيد في البيان والإرشاد ، وتكرار الإعراض منهم والمبالغة في الكفر والعناد ، فحينئذ يطبع على قلوبهم ، ويختم عليها ، فلا تقبل الهدى بعد ذلك ، والإعراض والكفر الأول لم يكن مع ختم وطبع ، بل كان اختيارا ، فلما تكرر منهم ، صار طبيعة وسجية ، فتأمل هذا المعنى في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧)) [البقرة].
ومعلوم أنّ هذا ليس حكما يعم جميع الكفار ، بل الذين آمنوا وصدقوا الرسل كان أكثرهم كفارا قبل ذلك ، ولم يختم على قلوبهم وعلى أسماعهم ، فهذه الآيات في حق أقوام مخصوصين من الكفار ، فعل الله بهم ذلك عقوبة منه لهم في الدنيا بهذا النوع من العقوبة العاجلة ، كما عاقب بعضهم بالمسخ قردة وخنازير ، وبعضهم بالطمس على أعينهم. فهو سبحانه يعاقب بالطمس على القلوب ، كما يعاقب بالطمس على الأعين ، وهو سبحانه قد يعاقب بالضلال عن الحق عقوبة دائمة مستمرة ، وقد يعاقب به إلى وقت ، ثم يعافي عبده ، ويهديه ، كما يعاقب بالعذاب كذلك.