قيل : هم دائرون بين عدله وحجته عليهم ، فمكّنهم وفتح لهم الباب ، ونهج لهم الطريق وهيّأ لهم الأسباب ، فأرسل إليهم رسله ، وأنزل عليهم كتبه ، ودعاهم على ألسنة رسله ، وجعل لهم عقولا تميز بين الخير والشر والنافع والضار وأسباب الردى وأسباب الفلاح ، وجعل لهم أسماعا وأبصارا ، فآثروا الهوى على التقوى ، واستحبّوا العمى على الهدى ، وقالوا : معصيتك آثر عندنا من طاعتك ، والشرك أحب إلينا من توحيدك ، وعبادة سواك أنفع لنا في دنيانا من عبادتك.
فأعرضت قلوبهم عن ربهم وخالقهم ومليكهم ، وانصرفت عن طاعته ومحبته ، فهذا عدله فيهم ، وتلك حجته عليهم ، فهم سدوا على أنفسهم باب الهدى إرادة منهم واختيارا ، فسدّه عليهم اضطرارا ، فخلّاهم وما اختاروا لأنفسهم ، وولّاهم ما تولوه ، ومكّنهم فيما ارتضوه ، وأدخلهم من الباب الذي استبقوا إليه ، وأغلق عنهم الباب الذي تولوا عنه ، وهم معرضون ، فلا أقبح من فعلهم ، ولا أحسن من فعله ، ولو شاء لخلقهم على غير هذه الصفة ، ولأنشأهم على غير هذه النشأة ، ولكنه سبحانه خالق العلوّ والسّفل ، والنور والظلمة ، والنافع والضار ، والطيب والخبيث ، والملائكة والشياطين ، والشاء والذياب ، ومعطيها آلاتها وصفاتها وقواها وأفعالها ، ومستعملها فيما خلقت له ، فبعضها بطباعها ، وبعضها بإرادتها ومشيئتها ، وكلّ ذلك جار على وفق حكمته ، وهو موجب حمده ومقتضى كماله المقدس وملكه التام ، ولا نسبة لما علمه الخلق من ذلك إلى ما خفي عليهم بوجه ما ، إن هو إلا كنقرة عصفور من البحر.