فيها ، وهي السبب الذي خلقها الله به في العبد ، فقولكم : إنه لا يمكنه الترك ، مع الاعتراف بكونه متمكنا من الفعل ، جمع بين النقيضين ، فإنه إذا تمكّن من الفعل ، كان الفعل اختياريا ، إن شاء فعله. وإن شاء لم يفعله ، فكيف يصح أن يقال : لا يمكنه ترك الفعل الاختياري الممكن ، هذا خلف من القول ، وحقيقة الأمر أنه يمكنه الترك لو أراده ، لكنه لا يريده ، فصار لازما بالإرادة الجازمة.
فإن قيل : فهذا يكفي في كونه مجبورا عليه.
قيل : هذا من أدلّ شيء على بطلان الجبر ، فإنه إنما لزم بإرادته المنافية للجبر ، ولو كان وجوب الفعل بالإرادة يقتضي الجبر ، لكان الرب تعالى وتقدس مجبورا على أفعاله ، لوجوبها بإرادته ومشيئته ، وذلك محال.
فإن قيل : الفرق أنّ إرادة الرب تعالى من نفسه ، لم يجعله غيره مريدا ، والعبد إرادته من ربه ، إذ هي مخلوقة له ، فإنه هو الذي جعله مريدا.
قيل : هذا موضع اضطرب فيه الناس ، فسلكت فيه القدرية واديا ، وسلكت الجبرية واديا ، فقالت القدرية : العبد هو الذي يحدث إرادته ، وليست مخلوقة لله ، والله مكّنه من إحداث إرادته بأن خلقه كذلك. وقالت الجبرية : بل الله هو الذي يحدث إرادات العبد شيئا بعد شيء ، فإحداث الإرادات فيه كإحداث لونه وطوله وقصره وسواده وبياضه ، مما لا صنع له فيه البتة ، فلو أراد أن لا يريد ، لما أمكنه ذلك ، وكان كما لو أراد أن يكون طوله وقصره ولونه على غير ما هو عليه ، فهو مضطر إلى الإرادة ، وكلّ إرادة من إرادته فهي متوقفة على مشيئة الرب لها بخصوصها ، فهي مرادة له سبحانه ، كما هي معلومة مقدورة ، فلزمهم القول بالجبر من هذه الجهة ، ومن جهة نفيهم أن يكون لإرادة العبد وقدرته أثر في الفعل.