فإن قيل : فأيّ واد تسلكونه غير هذين الواديين ، وأي طريق تمرون فيها سوى هذين الطريقين؟.
قيل : نعم هاهنا طريقة ثالثة ، لم يسلكها الفريقان ، ولم يهتد إليها الطائفتان ، ولو حكّمت كلّ طائفة ما معها من الحق ، والتزمت لوازمه وطردته ، لساقها إلى هذه الطريق ، ولأوقعها على المحجّة المستقيمة ، فنقول ، وبالله التوفيق ، وهو المستعان ، وعليه التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله : العبد بجملته مخلوق لله جسمه وروحه وصفاته وأفعاله وأحواله ، فهو مخلوق من جميع الوجوه ، وخلق على نشأة وصفة يتمكن بها من إحداث إرادته وأفعاله ، وتلك النشأة بمشيئة الله وقدرته وتكوينه ، فهو الذي خلقه وكوّنه كذلك ، وهو لم يجعل نفسه كذلك ، بل خالقه وباريه جعله محدثا لإرادته وأفعاله ، وبذلك أمره ونهاه ، وأقام عليه حجته ، وعرضه للثواب والعقاب ، فأمره بما هو متمكن من إحداثه ، ونهاه عما هو متمكّن من تركه ، ورتب ثوابه وعقابه على هذه الأفعال والتروك التي مكّنه منها ، وأقدره عليها ، وناطها (١) به ، وفطر خلقه على مدحه وذمه عليها مؤمنهم وكافرهم ، المقرّ بالشرائع منهم والجاحد لها ، فكان مريدا شائيا بمشيئة الله له ، ولو لا مشيئة الله أن يكون شائيا ، لكان أعجز وأضعف من أن يجعل نفسه شائيا ، فالربّ سبحانه أعطاه مشيئة وقدرة وإرادة ، وعرفه ما ينفعه وما يضره ، وأمره أن يجري مشيئته وإرادته وقدرته في الطريق التي يصل بها إلى غاية صلاحه ، فإجراؤها في طريق هلاكه بمنزلة من أعطى عبده فرسا يركبها ، وأوقفه على طريق نجاة وهلكة ، وقال : أجرها في هذا الطريق ، فعدل بها إلى الطريق الأخرى ، وأجراها فيها ، فغلبته بقوة رأسها وشدة سيرها ، وعزّ عليه ردها عن جهة جريها ، وحيل بينه وبين إدارتها إلى ورائها مع اختيارها وإرادتها ، فلو
__________________
(١) ناطها : علقها ، ربطها به.