وتحقيق ذلك أن الله سبحانه بعدله وحكمته أعطى العبد قدرة وإرادة ، يتمكن بها من جلب ما ينفعه ودفع ما يضره ، فأعانه بأسباب ظاهرة وباطنة ، ومن جملة تلك الأسباب القدرة والإرادة ، وعرّفه طريق الخير والشر ، ونهج له الطريق ، وأعانه بإرسال رسله وإنزال كتبه ، وقرن به ملائكته ، وأزال عنه كل علة يحتج بها عليه ، ثم فطرهم سبحانه على إرادة ما ينفعهم وكراهة ما يؤذيهم ويضرهم كما فطر على ذلك الحيوان البهيم ، ثم كان كثير مما ينفعهم لا علم لهم به على التفصيل ، والذي يعلمونه من المنافع أمر مشترك بينهم وبين الحيوانات ، وثمّ أمور عظيمة هي أنفع شيء لهم ، لا صلاح لهم ولا فلاح ولا سعادة إلا بمعرفتها وطلبها وفعلها ، ولا سبيل لهم إلى ذلك إلا بوحي منه وتعريف خاص ، فأرسل إليهم رسله ، وأنزل عليهم كتبه ، فعرّفهم ما هو الأنفع لهم وما فيه سعادتهم وفلاحهم ، فصادفتهم الرّسل مشتغلين بأضدادها ، قد ألفوها وساكنوها ، وجرت عليها عوائدهم حين ألفتها الطباع ، فأخبرتهم الرسل أنها أضرّ شيء عليهم ، وأنها من أعظم أسباب ألمهم وفوات أربهم وسرورهم ، فنهضت الإرادة طالبة للسعادة والفلاح ، إذ الدعوة إلى ذلك محركة للقلوب والأسماع والأبصار إلى الاستجابة فقام داعي الطبع والإلف والعادة في وجه ذلك الداعي معارضا له ، يعد النفس ويمنّيها ويرغّبها ويزيّن لها ما ألفته واعتادته ، لكونه ملائما له ، وهو نقد عاجل وراحة مؤثرة ولذة مطلوبة ولهو ولعب وزينة وتفاخر وتكاثر ، وداعي الفلاح يدعو إلى أمر آجل في دار غير هذه الدار ، لا ينال إلا بمفارقة ملاذّها وطيباتها ومسراتها وتجرّع مرارتها والتعرّض لآفاتها. وإيثار الغير لمحبوباتها ومشتهياتها ، يقول : خذ ما تراه ، ودع ما سمعت به. فقامت الإرادة بين الداعيين ، تصغي إلى هذا مرة وإلى هذا مرة ، فههنا معركة الحرب ومحل المحنة ، فقتيل وأسير وفائز بالظفر والغنيمة ، فإذا شاء الله سبحانه رحمة عبد جذب قوى إرادته وعزيمته إلى ما ينفعه ويحييه الحياة الطيبة ، فأوحى إلى ملائكته أن ثبّتوا