وفي أثر ذكره الإمام أحمد في «الزهد» (١) : أنّ موسى قال يا رب : هلّا سوّيت بين عبادك؟ قال : إني أحببت أن أشكر.
فإن قيل : فقد كان من الممكن أن يسوي بينهم في النعم ، ويسوي بينهم في الشكر ، كما فعل بالملائكة ، قيل : لو فعل ذلك ، لكان الحاصل من الشكر نوع (٢) آخر غير النوع الحاصل منه على هذا الوجه ، والشكر الواقع على التفضيل والتخصيص أعلى وأفضل من غيره ، ولهذا كان شكر الملائكة وخضوعهم وذلهم لعظمته وجلاله ، بعد أن شاهدوا من إبليس ما جرى له ، ومن هاروت وماروت ما شاهدوه ، أعلى وأكمل مما كان قبله ، وهذه حكمة الرب. ولهذا كان شكر الأنبياء وأتباعهم ، بعد أن عاينوا هلاك أعدائهم وانتقام الرب منهم ، وما أنزل بهم من بأسه ، أعلى وأكمل. وكذلك شكر أهل الجنة في الجنة ، وهم يشاهدون أعداءه المكذّبين لرسله المشركين به في ذلك العذاب ، فلا ريب أن شكرهم ، حينئذ ورضاهم ومحبتهم لربهم ، أكمل وأعظم مما لو قدّر اشتراك جميع الخلق في النعيم ، فالمحبة الحاصلة من أوليائه له والرضا والشكر وهم يشاهدون بني جنسهم في ضد ذلك من كل وجه أكمل وأتم.
فالضد يظهر حسنه الضد ، وبضدها تتبين الأشياء.
ولو لا خلق القبيح ، لما عرفت فضيلة الجمال والحسن. ولو لا خلق الظلام لما عرفت فضيلة النور. ولو لا خلق أنواع البلاء لما عرف قدر العافية. ولو لا الجحيم لما عرف قدر الجنة.
ولو جعل الله سبحانه النهار سرمدا لما عرف قدره. ولو جعل الليل سرمدا
__________________
(١) كتاب «الزهد» ص بتحقيقنا.
(٢) الوجه الأعرابي أن تكون (نوعا) إلا إذا قدر الضمير (هو).