وكظم الغيظ ، ولو لا الفقر والحاجة ، لم تحصل عبودية الصدقة والإيثار والمواساة ، فلو سوّى بين خلقه جميعهم ، لتعطلت هذه العبوديات التي هي أحبّ شيء إليه ، ولأجلها خلق الجن والإنس ، ولأجلها شرع الشرائع ، وأنزل الكتب ، وأرسل الرسل ، وخلق الدنيا والآخرة ، وكما أن ذلك من صفات كماله ، فلو لم يقدر الأسباب التي يحصل بها ذلك ، لغاب هذا الكمال ، وتعطّلت أحكام تلك الصفات كما مر ، توضيحه :
الوجه التاسع عشر : أنه سبحانه يفرح بتوبة عبده ، إذا تاب إليه ، أعظم فرح يقدر ، أو يخطر ببال ، أو يدور في خلد ، وحصول هذا الفرح موقوف على التوبة الموقوفة على وجود ما يتاب منه ، وما يتوقف عليه الشيء لا يوجد بدونه ، فإنّ وجود الملزوم بدون لازمه محال ، ولا ريب أن وجود الفرح أكمل من عدمه ، فمن تمام الحكمة تقدير أسبابه ولوازمه ، وقد نبّه أعلم الخلق بالله على هذا المعنى بعينه ، حيث يقول في الحديث الصحيح : «لو لم تذنبوا ، لذهب الله بكم ، ولجاء بقوم يذنبون ، ثم يستغفرون فيغفر لهم» (١).
فلو لم يقدّر الذنوب والمعاصي ، فلمن يغفر ، وعلى من يتوب ، وعمن يعفو ويسقط حقه ، ويظهر فضله وجوده وحلمه وكرمه ، وهو واسع المغفرة ، فكيف يعطل هذه الصفة ، أم كيف يتحقق بدون ما يغفر ، ومن يغفر له ومن يتوب وما يتاب عنه ، فلو لم يكن في تقدير الذنوب والمعاصي والمخالفات إلا هذا وحده ، لكفى به حكمة وغاية محمودة ، فكيف والحكم والمصالح والغايات المحمودة التي في ضمن هذا التقدير فوق ما يخطر بالبال.
وكان بعض العباد يدعو في طوافه : اللهمّ اعصمني من المعاصي ،
__________________
(١) سبق تخريجه.