من معاني العلو ، ولما كان هذا غاية ذلّ العبد وخضوعه وانكساره ، كان أقرب ما يكون الرب منه في هذه الحال ، فأمر أن يجتهد في الدعاء ، لقربه من القريب المجيب ، وقد قال تعالى : (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩)) [العلق]. وكان الركوع كالمقدمة بين يدي السجود ، والتوطئة له ، فينتقل من خضوع إلى خضوع أكمل وأتم منه وأرفع شأنا ، وفصل بينهما بركن مقصود في نفسه ، يجتهد فيه بالحمد والثناء والتمجيد ، وجعل بين خضوع قبله وخضوع بعده ، وجعل خضوع السجود بعد الحمد والثناء والمجد ، كما جعل خضوع الركوع بعد ذلك.
فتأمل هذا الترتيب العجيب ، وهذا التنقل في مراتب العبودية ، كيف ينتقل من مقام الثناء على الرب بأحسن أوصافه وأسمائه وأكمل محامده إلى من له خضوعه وتذلله أن له هذا الثناء ، ويستصحب في مقامه خضوعه بما يناسب ذلك المقام ويليق به ، فتذكر عظمة الرب في حال خضوعه ، وعلوه في حال سفوله.
ولما كان أشرف أذكار الصلاة القرآن ، شرع في أشرف أحوال الإنسان وهي هيئة القيام التي قد انتصب فيها قائما على أحسن هيئة ، ولما كان أفضل أركانها الفعلية السجود ، شرع فيها بوصف التكرار ، وجعل خاتمة الركعة وغايتها التي انتهت إليها مطابق افتتاح الركعة بالقرآن ، واختتامها بالسجود أول سورة افتتح بها الوحي فإنها بدئت بالقراءة ، وختمت بالسجود ، وشرع له بين هذين الخضوعين أن يجلس جلسة العبيد ، ويسأل ربه أن يغفر له ويرحمه ويرزقه ويهديه ويعافيه ، وهذه الدعوات تجمع له خير دنياه وآخرته ، ثم شرع له تكرار هذه الركعة مرة بعد مرة ، كما شرع تكرار الأذكار والدعوات مرة بعد مرة ، ليستعد بالأول لتكميل ما بعده ، ويجبر بما بعده ما قبله ، وليشبع القلب من هذا الغذاء ، وليأخذ رواه ونصيبه وافرا من الدواء ، ليقاومه ، فإنّ