الحكمة فيما لم تعلمه أعظم منها فيما علمته ، فإن الذي علمته على قدر عقلك وفهمك وما خفي عنك ، فهو فوق عقلك وفهمك ، ولو تتبعنا تفصيل ذلك ، لجاء عدة أسفار ، فيكتفى منه بأدنى بيّنة ، والله المستعان.
الوجه الثالث والعشرون : أن هذه الجمادات والحيوانات المختلفة الأشكال والمقادير والصفات والمنافع والقوى والأغذية ، والنباتات التي هي كذلك ، فيها من الحكم والمنافع ما قد أكثرت الأمم في وصفه وتجربته على ممر الدهور ، ومع ذلك فلم يصلوا منه إلا إلى أيسر شيء وأقله ، بل لو اتفق جميع الأمم ، لم يحيطوا علما بجميع ما أودع واحد من ذلك النوع ، من الحكم والمصالح ، هذا إلى ما في ضمن ذلك ، من الاعتبار والدلالة الظاهرة على وجود الخالق ومشيئته واختياره وعلمه وقدرته وحكمته ، فإن المادة الواحدة لا تحتمل بنفسها هذه الصور الغريبة والأشكال المتنوعة والمنافع والصفات ، ولو تركبت مع غيرها ، فليس حدوث هذه الأنواع والصور بنفس التركيب أيضا ، ولا هو مفيض له ، فحصول هذا التنوّع والتفاوت والاختلاف في الحيوان والنبات من أعظم آيات الرب تعالى ودلائل ربوبيته وقدرته وحكمته وعلمه ، وأنه فعّال لما يريد اختيارا ومشيئة ، فتنويع مخلوقاته وحدوثها شيئا بعد شيء ، من أظهر الدلالات.
وتأمل كيف أرشد القرآن إلى ذلك في غير موضع ، كقوله تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤)) [الرعد] وقوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤)) [البقرة] وقوله : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ