تلك الدار ، لما عرفوا قدر نعمته عليهم بها ، فأسكنهم دار الامتحان ، وعرّضهم فيها لأمره ونهيه ، لينالوا بالطاعة أفضل ثوابه وكرامته. وكان من الممكن أن يحصل لهم النعيم المقيم هناك ، لكن الحاصل عقيب الابتلاء والامتحان ومعاناة الموت وما بعده ، وأهوال القيامة ، والعبور على الصراط ، نوع آخر من النعيم ، لا يدرك قدره ، وهو أكمل من نعيم من خلق في الجنة من الولدان والحور العين بما لا يشبه بينهما بوجه من الوجوه.
ومن الحكم في ذلك أنه سبحانه أراد أن يتّخذ من ذرية آدم رسلا وأنبياء وشهداء ، يحبهم ويحبونه ، وينزل عليهم كتبه ، ويعهد إليهم عهده ، ويستعبدهم له في السراء والضراء ، ويؤثرون محابّه ومراضيه على شهواتهم وما يحبونه ويهوونه ، فاقتضت حكمته أن أنزلهم إلى دار ، ابتلاهم فيها بما ابتلاهم ، ليكملوا (١) بذلك الابتلاء مراتب عبوديته ، ويعبدونه بما تكرهه نفوسهم ، وذلك محض العبودية ، وإلا فمن يعبد الله إلا بما يحبّه ويهواه ، فهو في الحقيقة إنما يعبد نفسه ، وهو سبحانه يحبّ من أوليائه أن يوالوا فيه ، ويعادوا فيه ، ويبذلوا نفوسهم في مرضاته ومحابه ، وهذا كله لا يحصل في دار النعيم المطلق.
ومن الحكمة في إخراجه من الجنة ما تقدم التنبيه عليه من اقتضاء أسماء الله الحسنى لمسمياتها ومتعلقاتها ، كالغفور الرحيم التواب العفوّ المنتقم الخافض الرافع المعز المذل المحيي المميت الوارث ، ولا بدّ من ظهور أثر هذه الأسماء ووجود ما يتعلق به ، فاقتضت حكمته أن أنزل (٢) الأبوين من الجنة ، ليظهر مقتضى أسمائه وصفاته فيهما وفي ذريتهما ، فلو تربّت الذرية
__________________
(١) تحرفت في المطبوع إلى : «ليكلموا».
(٢) في المطبوع «إنزال» والصواب ما أثبتناه.