تقديرا ذهنيا ، ويحسب أنها أكمل من الممكن الواقع ، ومع هذا فربها يرحمها ، لجهلها وعجزها ونقصها ، فإن اعترفت بذلك ، واعترفت له بكماله وحمده ، وقامت بمقتضى هذين الاعترافين ، كان نصيبها من الرحمة أوفر ، والله سبحانه افتتح الخلق بالحمد ، وختم أمر هذا العالم بالحمد فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ (١)) [الأنعام] وقال : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥)) [الزمر].
وأنزل كتابه بالحمد ، وشرع دينه بالحمد ، وأوجب ثوابه وعقابه بالحمد ، فحمده من لوازم ذاته ، إذ يستحيل أن يكون إلا محمودا ، فالحمد سبب الخلق ، وغايته الحمد ، أوجبه ، وللحمد وجد ، فحمده واسع لما وسعه علمه ورحمته ، وقد وسع ربّنا كلّ شيء رحمة وعلما ، فلم يوجد شيئا ، ولم يقدره ، ولم يشرعه إلا بحمده ولحمده ، وكل ما خلقه وشرعه فهو متضمن للغايات الحميدة ، ولا بد من لوازمها ولوازم لوازمها ولهذا ملأ حمده سماواته وأرضه وما بينهما وما شاء من شيء بعد مما خلقه ويخلقه بعد هذا الخلق ، فحمده ملأ ذلك كله.
وحمده تعالى أنواع : حمد على ربوبيته ، وحمد على تفرده بها ، وحمد على ألوهيته وتفرده ، وحمد على نعمته ، وحمد على منّته ، وحمد على حكمته ، وحمد على عدله في خلقه ، وحمد على غناه عن إيجاد الولد والشريك والوليّ من الذّلّ ، وحمده على كماله الذي لا يليق بغيره ، فهو محمود على كل حال ، وفي كل آن ونفس ، وعلى كل ما فعل وكل ما شرع ، وعلى كل ما هو متّصف به ، وعلى كل ما هو منزه عنه ، وعلى كل ما في الوجود من خير وشر ولذة وألم وعافية وبلاء ، فكما أن الملك كله له ، والقدرة كلها له ، والعزة كلها له ، والعلم كله له ، والجمال كله له ، والحمد كله له ، كما في الدعاء المأثور : «اللهم لك الحمد كلّه ، ولك الملك كله ،