راجعة إلى الرب تعالى ، فيمكنهم سلوك هذه الطريق ، لكن يقال : الحكمة لا تقتضي دوام عذابهم بدوام بقائه سبحانه ، وهو لم يخبر أنه خلقهم لذلك ، وإنما يعذبون لغاية محدودة (١) إذا حصلت ، حصل المقصود من عذابهم ، وهو سبحانه لا يعذب خلقه سدى ، وهو قادر على أن ينشئهم بعد العذاب الطويل نشأة أخرى مجردة عن تلك الشرور والخبائث التي كانت في نفوسهم ، وقد أزالها طول العذاب ، فإنهم خلقوا قابلين للخير على الفطرة ، وهذا القبول لازم لخلقتهم ، وبه أقروا بصانعهم وفاطرهم ، وإنما طرأ عليه ما أبطل مقتضاه ، فإذا زال ذلك الطارئ بالعذاب الطويل ، بقي أصل القبول بلا معارض.
وأما قوله تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ (٢٨)) [الأنعام] فهذا قبل مثابرتهم للعذاب ، قال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨)) [الأنعام] فتلك الخبائث والشرور قائمة بنفوسهم ، لم تزلها النار ، فلو ردّوا لعادوا لقيام المقتضى للعود ، ولكن أين أخبر سبحانه أنه لو ردّهم بعد العذاب الطويل السرمدي ، لعادوا لما نهوا عنه ، وسرّ المسألة أن الفطرة الأصلية لا بد أن تعمل عملها ، كما عمل الطارئ عليها عمله ، وهذه الفطرة عامة لجميع بني آدم ، كما في الصحيحين (٢) من حديث أبي هريرة ، عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «ما من مولود إلا يولد على الفطرة» وفي لفظ : «على هذه الملة».
__________________
(١) تحرفت في المطبوع إلى : «محمودة».
(٢) البخاري (١٣٥٨) ، ومسلم (٢٦٥٨).