وفي صحيح مسلم (١) ، من حديث عياض بن حمار المجاشعي ، عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، فما يروي عن ربه قال : «إني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين ، فاجتالتهم عن دينهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزّل به سلطانا».
فأخبر أن الأصل فيهم الحنيفية ، وأنهم خلقوا عليها ، وإن صدّها عارض فيهم ، باقتطاع الشياطين لهم عنها ، فمن الممتنع أن يعمل أثر اقتطاع الشياطين ، ولا يعمل أثر خلق الرحمن جل جلاله عمله ، والكل خلقه سبحانه ، فلا خالق سواه ، ولكن ذاك خلق يحبه ويرضاه ، ويضاف أثره إليه ، وهذا خلق يبغضه ويسخطه ، ولا يضاف أثره إليه ، فإن الشر ليس إليه ، والخير كله في يديه ، فإن قيل : فقد قال سبحانه : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ (٢٣)) [الأنفال] وهذا يقتضي أنه لا قابلية فيهم ، ولا خير عندهم البتة ، ولو كان عندهم ، لخرجوا به من النار مع الموحّدين ، فإنه سبحانه يخرج من النار من في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من خير ، فعلم أن هؤلاء ليس معهم هذا القدر اليسير من الخير.
قيل : الخير في هذا الحديث هو الإيمان بالله ورسله ، كما في اللفظ الآخر : أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان ، وهو تصديق رسله ، والانقياد لهم بالقلب والجوارح. وأما الخير في الآية ، فالمراد به القبول والزكاء ، ومعرفة قدر النعمة ، وشكر المنعم عليها ، فلو علم الله سبحانه ذلك فيهم ، لأسمعهم إسماعا ينتفعون به ، فإنهم قد سمعوا سماعا تقوم به عليهم الحجة ، فتلك القابلية ذهب أثرها ، وتعطلت بالكفر والجحود ، وعادت كالشيء المعدوم الذي لا ينتفع به ، وإنما ظهر أثرها في قيام الحجة عليهم ، ولم
__________________
(١) مسلم (٢٨٦٥).