فصل
وإن كان المراد بهذا القول ما قاله طائفة من العلماء : أنّ المراد أنهم ولدوا على الفطرة السليمة التي لو تركت ، مع صحّتها ، لاختارت المعرفة على الإنكار والإيمان على الكفر ، ولكن بما عرض لها من الفساد خرجت عن هذه الفطرة ، فهذا القول قد يقال : لا يرد عليه ما يرد على القول الذي قبله ، فإنّ صاحبه يقول : في الفطرة قوة تميل بها إلى المعرفة والإيمان ، كما في البدن السليم قوة يحب بها الأغذية النافعة ، وبهذا كانت محمودة ، وذم من أفسدها. لكن يقال : فهذه الفطرة التي فيها هذه القوة والقبول والاستعداد والصلاحية ، هل هي كافية في حصول المعرفة ، أو تقف المعرفة على أدلة من خارج؟ فإن كانت المعرفة تقف على أدلة من خارج ، أمكن أن يوجد تارة ويعدم أخرى ، ثم ذلك السبب يمتنع أن يكون موجبا للمعرفة بنفسه ، بل غايته أن يكون معرفا ومذكرا ، فعند ذلك إن وجب حصول المعرفة ، كانت واجبة الحصول ، عند وجود تلك الأسباب ، وإلا فلا ، وحينئذ فلا يكون فيها إلا قبول المعرفة والإيمان ، وحينئذ فلا فرق فيها بين الإيمان والكفر والمعرفة والإنكار ، إنما فيها قوة قابلة لكل منهما واستعداد له ، لكن يتوقف على المؤثر الفاعل من خارج ، وهذا هو القسم الأول الذي أبطلناه ، وبيّنا أنه ليس في ذلك مدح للفطرة.
وأما إن كان فيها قوة تقتضي المعرفة بنفسها ، وإن لم يوجد من يعلمها أدلة المعرفة فيها بدون ما يسمعه من الأدلة سواء ، قيل : إن المعرفة ضرورية فيها ، أو قيل : إنها تحصل بأسباب تنتظم في النفس ، وإن لم يسمع كلام