فهؤلاء هم الذين قالوا : هذا العالم جسم ، وكل جسم فإنه ممكن لذاته ، بحسب ذاته ، وبحسب جميع أجزاء ماهيته. وكل ممكن فلا بد له مؤثر. والمؤثر في جميع الأجسام ، يمتنع أن يكون جسما. ثم قالوا : المؤثر على سبيل الاختيار : غير معقول ، بناء على الشبهات التي ذكرناها. فثبت : أن ذلك المؤثر موجب بالذات ، فهذا العالم ممكن الوجود لذاته ، واجب الوجود بوجوب سببه وعلته. وهذا مذهب جمهور الفلاسفة ، الذين هم أتباع «أرسطاطاليس» فإن هذا القول هو الذي اختاره هذا الرجل ، ونصره [أصحابه (١)] وأتباعه من المتقدمين والمتأخرين ثم هاهنا موضعان للبحث :
الموضع الأول : أن يقال : المبدأ الأول. هل يعقل أن يكون مبدأ لجميع الممكنات ، أو يقال: إنه مبدأ لشيء واحد ، ثم ذلك الشيء الواحد يكون مبدأ للكثرة؟.
أما القول الأول : وهو أن المبدأ الأول لجميع الممكنات ابتداء. فما رأيت قوما من الفلاسفة قالوا به. بل اتفقوا على القول الثاني ، وهو أنه تعالى واحد. والواحد لا يصدر عنه إلا الواحد ، فهو تعالى علة للعقل الأول. ثم إن العقل الأول علة لثلاثة أشياء : العقل الثاني ، والنفس ، والفلك. وسيأتي تفصيل قولهم في هذا الباب.
والموضع الثاني من البحث : هو أن يقال : لم لا يجوز أن يقال : إن واجب الوجود يؤثر في وجود الأجسام ، تأثير على سبيل الإيجاب الذاتي ، ثم إنه يركبها على الصفات المختلفة بحسب اختيارها؟ فعلى هذا التقدير : إنه موجب بالنسبة إلى الذوات ، ومختار بالنسبة إلى الصفات.
وأما القسم الثالث : وهو أن يقرّ بإثبات [إله (٢)] فاعل بالاختيار لهذا العالم ، ويعترف بأنه لا يفعل إلا ما يوافق مصالح الخلق. وهؤلاء هم الذين أطبقوا على أنه إله العالم ، يجب أن يكون عادلا ناظرا لعباده ، رحيما بهم ،
__________________
(١) من (ط ، س).
(٢) من (ط) ويقال (ط) ويقر (ت)