على هذه المعاني ، فحينئذ لا يبقى للعقل أمان في الحكم بجواز الجائزات ، واستحالة المستحيلات. فلعل الجمع بين الضدين وإن كان ممتنعا ، فسيجيء وقت يصير فيه واجبا لعينه ، ولعل كون الأربعة زوجا ، وإن كان واجبا لذاته ، فسيجيء وقت يصير فيه ممتنعا لعينه. وبالجملة : فالعقل إنما يمكنه تركيب المقدمات بناء على أن ما يكون ممتنعا لعينه ، وجب أن يكون كذلك أبدا ، وما كان واجبا لعينه ، وجب أن يكون كذلك أبدا. فإن أدخلنا الطعن والتكذيب في هذه المقدمة ، فحينئذ لا يبقى عند العقل مقدمة يمكنه الجزم بها ، وذلك [دخول في السفسطة (١)]
وأما القائلون بإثبات الأول لهذا الإمكان. فقد احتجوا عليه ، وقالوا : إنه [إذا كان (٢)] لا أول لإمكان وجود العالم في نفسه ، ولا أول أيضا لإمكان تأثير قدرة الله تعالى فيه ، فعلى هذا التقدير ، لا امتناع في تأثير قدرة الله تعالى في وجود العالم من الأزل إلى الأبد. وإذا كان الأمر كذلك ، لزم [القطع (٣)] بأنه لا امتناع في كون العالم موجودا في الأزل ، ولا امتناع في كونه تعالى موجدا للعالم في الأزل. وإذا كان الأمر كذلك ، كان القول بأن العالم يمتنع أن يكون قديما مع ذلك القول ، يوجب الجمع بين النقيضين ، وهو محال. وأيضا : فالفعل ما له أول ، والأزل ما لا أول له ، والجمع بينهما محال.
واعلم أن هذا الكلام مشكل جدا ، وقد أجبنا عنه في كتاب «الأربعين» فقلنا : إنا إذا وجدنا (٤) الشيء المعين ، بشرط كونه مسبوقا بالعدم ، فإنه مع هذا الشرط لا أول لصحة وجوده ، ثم لا يلزم من قولنا : لا أول لصحة وجوده مع هذا الشرط ، صدق قولنا : إنه يصح أن يكون أزليا ، لأنه مع شرط كونه مسبوقا بالعدم ، يمتنع أن يكون أزليا. فيثبت : أنه لا يلزم من قولنا : إنه لا أول لصحة وجوده ، قولنا : إنه يصح أن يكون أزليا.
__________________
(١) من (ط ، س)
(٢) من (ط)
(٣) من (ط ، س)
(٤) أخذنا (ط)