وأما القائلون بأنها غير متناهية : فقد احتجوا بوجوه :
الحجة الأولى : قالوا : إنا لو فرضنا أنفسنا على طرف العالم الجسماني ، فإن صريح عقلنا يحكم بأنا في تلك الحالة نميز بين قدامنا وخلفنا ، ويميننا ويسارنا. ولا يمكننا أن نشكك أنفسنا في هذه القضية. كما أنه لا يمكننا أن نشكك أنفسنا في سائر البديهيات. فلو جاز الطعن في هذا الجزم ، لجاز أيضا في كل ما يجزم به العقل. وحينئذ تلزم السفسطة. ولا يقال : إن هذا الجزم إنما جاء من قبل الوهم والخيال ، لا من قبل العقل. لأنا نقول : علمنا بأن هذا الجزم إنما جاء من قبل الوهم والخيال ، مع علمنا بأن حكم الوهم والخيال كاذب : أما أن يكون علما ضروريا أو نظريا.
فإن كان الأول : امتنع مع حصول ذينك العلمين ، حصول الجزم والقطع في هذه القضية. وقد فرضنا حصوله. وإن كان الثاني فحينئذ تتوقف صحة البديهيات على النظريات. ولا شك أن النظريات موقوفة على البديهيات. فيلزم الدور (١) وهو محال.
ومما يقوي هذا الدليل : إنا إذا عرضنا على عقولنا : أنا عند الوقوف على طرف العالم، لا بد وأن نميز جانب القدام عن جانب الخلف ، وعرضنا أيضا على عقولنا تلك المقدمات ، التي ركبتم دلائلكم في وجوب تناهي الأبعاد عليها. فإنا وجدنا جزم العقل بتلك القضية ، أقوى وأكمل من جزمها بتلك القضايا ، التي ركبتم دلائلكم في وجوب تناهي الأبعاد عليها. والعقل يوجب ترجيح الراجح على المرجوح. فكان الرجوع إلى هذه القضية أولى من الرجوع إلى تلك الوجوه المتكلفة ، والمقدمات المتعسفة.
الحجة الثانية للقائلين بأنه لا نهاية للأجسام : هي أن الموجب لوجود هذه الأجسام موجود. ولا مانع من هذا الإيجاب البتة. فوجب الجزم بالحصول.
أما بيان المقام الأول : فهو أن كل ما لا بد في كونه تعالى مؤثرا في
__________________
(١) الدور والمحال (م).