ولو كان الذكر اللفظيّ أيضا ذكرا حقيقة ، فالذكر ذو مراتب هو أحدها ، ومرتبته الأخرى الذكر القلبيّ ، قال تعالى : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (١) وقال : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) (٢) وقال : (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) (٣) فالشدة إنّما يتّصف بها المعنى دون اللفظ ، وقال : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) (٤) وذيل الآية يدلّ على طلب ما هو أعلى منزلة ممّا هو فيه ، فيؤول المعنى إلى أنّك إذا تنزّلت من مرتبة من ذكره ـ بالنسيان ـ إلى مرتبة هي دونه ، فاذكر ربّك واسأل ما هو أقرب طريقا وأعلى منزلة ، فينتج : أنّ الذكر القلبي ذو مراتب في نفسه.
وكيف كان ، فلو كان لقوله : (فَاذْكُرُونِي) حقيقة من غير مجاز ، أفاد ذلك أنّ للإنسان سنخا آخر من العلم غير هذا العلم المعهود عندنا ؛ وهو حضور صورة المدرك بالفتح عند المدرك بالكسر إذ كلّ ما فرض من هذا السنخ فهو توصيف للمعلوم ، وتقدّست ساحته سبحانه عن توصيف الواصفين ، قال تعالى : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ* إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٥) وقال : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً). (٦)
وينتج ذلك أوّلا (٧) أنّ إطلاق ذكر الله على الأذكار القلبيّة ـ أيضا ـ كإطلاق الذكر على الذكر اللفظي مسامحة ، وليس من الحقيقة في شيء ، إلّا بعناية
__________________
(١). الرعد (١٣) : ٢٨.
(٢). الأعراف (٧) : ٢٠٥.
(٣). البقرة (٢) : ٢٠٠.
(٤). الكهف (١٨) : ٢٤.
(٥). الصافات (٣٧) : ١٦٠ ـ ١٥٩.
(٦). طه (٢٠) : ١١٠.
(٧). ليس لهذه الكلمة عدل ظاهر في العبارة.