فالكلام إمّا مقصور للحصر وإمّا وارد مورد التأكيد ، والاهتداء آكد من الهداية بناءا على أنّ زيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني ، فيفيد الكلام ـ على أيّ حال ـ اتّصاف القوم بحقيقة الهداية وتحقّقهم بها ، وقد قال تعالى : (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) (١) فينطبق الكلام على معنى قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (٢) وحينئذ فمن الممكن أن يكون اللام في قوله : (الْمُهْتَدُونَ) للعهد.
وبذلك كلّه يتبيّن : أنّ هذا الاهتداء غير الصلوات والرحمة ، ويتبيّن أيضا : وجه التفرقة بين الصلوات والرحمة وبين الاهتداء ؛ إذ يقول : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).
فمثل هؤلاء القوم في كرامتهم : مثل صديقك تلقاه وهو يريد دارك والنزول بك ويسأل عنها ، فتلقاه بالبشر والكرامة ، فتورده مستقيم الطريق ، وأنت معه تسيّره ولا تدعه يضلّ حتّى تورده نزله من دارك ، وتعاهده في الطريق بمراقبة مأكله ومشربه وركوبه ونزوله وسيره وحفظه كلّ حين ، فتكرمه بكفاية ما يحتاج إليه.
فالواقع من الإكرام واحد ؛ لأنّك إنّما تريد إكرامه ، وإن كان كلّ تعاهد يلحقه إكرام مختصّ به ، والهداية مع ذلك غيرهما جميعا ، وإن كان كلّ منها يصدق على الآخرين حقيقة ، فالجميع هداية ، والجميع تعاهد وعناية ، والجميع إكرام وكفاية ، والإكرام بمنزلة الرحمة ، والتعاهدات كلّ حين بمنزلة الصلوات ، والهداية إلى الدار بمنزلة الاهتداء.
*
__________________
(١). النحل (١٦) : ٣٧.
(٢). الأنعام (٦) : ٨٢.