واقعية ويتوغلون إلى أعماقها.
والمقصود من العبرة والإعتبار في الآية أعلاه هو الإنتقال المنطقي والقطعي من موضوع إلى آخر. يعني مقايسة الحوادث المتشابهة من خلال إعمال العقل.
وتضيف الآية اللاحقة : (وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِى الدُّنْيَا).
وبدون شك فإنّ الجلاء عن الوطن وترك قسم كبير من رؤوس الأموال التي جهدوا جهداً بليغاً في الحصول عليها ، هو بحدّ ذاته أمر مؤلم لهم ، وبناءً على هذا فإنّ مراد الآية أعلاه أنّه لو لم يحلّ بهم هذا العذاب ، فإنّ بإنتظارهم عذاباً آخر هو القتل أو الأسر بيد المسلمين ... إلّا أنّ الله سبحانه أراد لهم التيه في الأرض والتشرّد في العالم ، لأنّ هذا أشدّ ألماً وأسىً على نفوسهم ، إذ كلّما تذكّروا أرضهم وديارهم ومزارعهم وبساتينهم التي أصبحت بيد المسلمين ، وكيف أنّهم شردوا منها بسبب نقضهم العهد ومؤامراتهم ضدّ رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فإنّ ألمهم وحزنهم ومتاعبهم تضاعف وخاصة على المستوى النفسي.
وكان هذا عذاباً دنيوياً لهم ، إلّاأنّ لهم جولة اخرى مع عذاب أشدّ وأخزى ، ذلك هو عذاب الآخرة ، حيث يضيف سبحانه في نهاية الآية : (وَلَهُمْ فِى الْأَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ).
وبما أنّ ذكر هذه الحادثة مضافاً إلى تجسيد قدرة الله وصدق الدعوة المحمّدية ، فهي في نفس الوقت تمثّل إنذاراً وتنبيهاً لكل من يروم القيام بأعمال مماثلة لفعل بني النضير ، لذا ففي الآية اللاحقة يرشدنا سبحانه إلى هذا المعنى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
«شاقّوا : من مادة شقاق وهي في الأصل بمعنى الشقّ والفصل بين شيئين ، وبما أنّ العدو يكون دائماً في الطرف المقابل ، فإنّ كلمة (شقاق) تطلق على هذا العمل.
وفي الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث نلاحظ جواباً على إعتراض يهود بني النضير على قطع المسلمين لنخيلهم ـ كما ورد في شأن النزول ـ بأمر من رسول الله صلىاللهعليهوآله لتهيئة ظروف أفضل لقتال بني النضير أو لزيادة حزنهم وألمهم ، فيضطرّوا للنزول من قلاعهم ومنازلة المسلمين خارج القلعة ، وقد أثار هذا العمل غضب اليهود وحنقهم ، فقالوا : يا محمّد ، قد كنت تنهي عن الفحشاء ، فما بالك تقطع النخل وتحرقها؟ فنزلت الآية مبيّنة لهم أنّ ذلك من أمر الله سبحانه حيث يقول الباريء : (مَا قَطَعْتُم مّن لّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا