إنّما عبارة (ذكرنا) ذو مفهوم واسع بحيث يشمل كل توجّه نحو الله ، سواء أكان ذلك عن طريق القرآن ، أو عن طريق العقل ، أو عن طريق السنّة ، أو تذكّر القيامة وما إلى ذلك.
وربّما لا حاجة إلى التذكير أنّ الأمر بالإعراض عن هذه الفئة (أهل الدنيا) لا ينافي تبليغ الرسالة الذي هو وظيفة النبي الأساسية ، لأنّ التبليغ والإنذار والبشارة كلها لا تكون إلّافي موارد احتمال التأثير ، فحيث يعلم ويتيقّن عدم التأثير فلا يصحّ هدر الطاقات ، وينبغي الإعراض بعد إتمام الحجة.
وفي آخر آية من الآيات محل البحث يثبت القرآن إنحطاط أفكار هذه الفئة فيقول مضيفاً : (ذلِكَ مَبْلَغُهُم مّنَ الْعِلْمِ).
إنّ آية أعلاه يمكن أن تكون إشارةً إلى خرافاتهم كعبادة الأصنام وجعلهم الملائكة بنات الله : أي أنّ منتهى علمهم هو هذه الأوهام.
أو أنّها إشارة إلى حبّ الدنيا والأسر في قبضة الماديات ، أي أنّ منتهى إدراكهم هو قناعتهم بالأكل والشرب والنوم والمتاع الفاني في هذه الدنيا وزبرجها وزخرفها الخ.
وقد جاء في الدعاء المعروف في أعمال شعبان المنقول عن رسول الله صلىاللهعليهوآله أنّه قال : ولا تجعل الدنيا أكبر همّنا ولا مبلغ علمنا.
وتختتم الآية بالقول : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى).
ختام الآية يشير إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ الله يعرف الضالين جيّداً كما يعرف المهتدين أيضاً ، فيصبّ غضبه على الضالّين ويسبغُ لطفه على المهتدين ، ويجازي كلّاً بعمله يوم القيامة.
(وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) (٣٢)
لما كان الكلام في الآيات المتقدمة عن علم الله بالضالين والمهتدين ، فإنّ الآيات أعلاه تتمّة لما جاء آنفاً. تقول : (وَلِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ).