في مواضع كثيرة يبدأ القرآن بالقسم عند تعرّضه للحقائق الهامة ... بالقسم الذي يؤدي بدوره إلى حركة في الفكر والعقل .. بالقسم المرتبط إرتباطاً خاصاً بالموضوع المطروح.
وفي هذا الموضع تبدأ الآية بالقسم : قسماً بهذه المدينة المقدسة مكة : (لَاأُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ). لتقرر حقيقة من حقائق حياة الإنسان هي إنّ هذه الحياة مقرونة بالآلام والأسقام.
(وَأَنتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ).
أرض مكة مشرّفة ومعظمة ، لأنّ فيها أوّل مركز للتوحيد ولعبادة الله سبحانه ، وكان هذا المركز مطاف أنبياء الله العظام ... ولذلك أقسم الله بها ... ولكن السورة تشير إلى عامل آخر أضفى على هذه المدينة شرفاً وكرامة : (وَأَنتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) ... فالبلد استحق أن يقسم به الله لوجودك أنت أيّها النبي الكريم فيه.
(وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ).
إنّ الوالد إبراهيم الخليل والولد إسماعيل الذبيح.
ونعلم أنّ إبراهيم وإبنه رفعا القواعد من البيت ، وبذلك وضعا حجر أساس البلد الأمين. والعرب في الجاهلية كانوا يجلّون إبراهيم وإبنه ويفخرون في الإنتساب إليهما.
(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسنَ فِى كَبَدٍ).
إنّ كبد ألم يصيب الكَبِد ، ثم اطلق على كل ألم ومشقّة.
هذه طبيعة الحياة ، ومن توقّع منها غير ذلك خيّبت ظنّه. يقول الشاعر :
طبعت على كدر وأنت تريدها |
|
صفواً من الأكدار والأقذار |
ومكلّف الأيّام ضد طباعها |
|
متطلب في الماء جذوة نار |
وهذه الحالة تشمل كل أبناء البشر دونما استثناء ، بمن فيهم أنبياء الله وأولياؤه الصالحون.
ثم إذا كان هناك استثناءات مكانية وزمانية محدودة من هذه الحالة العامة فلا ينتقض القانون العام للحياة : (أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ).
فما يحيط بالإنسان من مكابدة يدلّ على ضعف قدرته ، هذه الحقيقة تردّ على اولئك الذين يمتطون مركب الغرور ، ويخالون أنّهم في مأمن من العقاب الإلهي.
(يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَدًا).
إشارة إلى قول الذين يُطلب منهم أن ينفقوا أموالهم في الخيرات ، فيأبون ويقولون بغرور : إننا أنفقنا في هذا السبيل كثيراً من الأموال ، بينما لم ينفق هؤلاء شيئاً ، وإنّ أعطوا لأحد شيئاً فللرياء ولتحقيق هدف شخصي.