ولم أسمع منك إلّا ثلاثين حديثا! قال : وتستقلّ ثلاثين حديثا في أربعة أيّام؟ لقد سار جابر بن عبد الله إلى «مصر» ، واشترى راحلة فركبها ، حتى سأل عقبة بن عامر عن حديث واحد ، وانصرف إلى «المدينة» ، وأنت تستقلّ ثلاثين حديثا في أربعة أيام؟ (١).
مما سبق يتبيّن أن للرحلة أثرا ملحوظا في تمحيص العلوم ، وتنقيحها ، وتثبيتها في أذهان العلماء ، وأن طلاب العلم نزحوا من قطر إلى قطر ، تحملهم ظهور الفيافي والقفار ، تنقيبا عن الحديث ، أو المسألة الفقهية ، أو السّماع من شيخ مشهور ، أو التّلمذة على يد عالم إمام.
ولم يكن الإمام الثعالبي بدعا في هذا الشّأن ، بل سار على درب أسلافه من العلماء ، وأقرانه من طلّاب العلم في السّعي والسّفر ؛ رغبة في تحصيل العلم ، وطلب مسائله وقضاياه.
وقد عرفنا الثعالبي نفسه أنه قد رحل في طلب العلم ، وسمع من أهل العلم في مختلف الأقطار ، فنراه يقول :
رحلت في طلب العلم من ناحية «الجزائر» في آخر القرن الثامن ، فدخلت «بجاية» عام اثنين وثمانمائة ، فلقيت بها الأئمة المقتدى بهم في العلم والدين والورع ، أصحاب الفقيه الزاهد الورع عبد الرحمن الوغليسي ، وأصحاب الشيخ أبي العباس أحمد بن إدريس متوافرون يومئذ ، أصحاب ورع ووقوف مع الحد لا يعرفون الأمراء ، ولا يخالطونهم ، وسلك أتباعهم مسلكهم ، كشيخنا الإمام الحافظ أبي الحسن علي بن عثمان المكلاتي ، وشيخنا الولي الفقيه المحقّق أبي الربيع سليمان بن الحسن ، وأبي الحسن علي بن محمد البليليتي ، وعلي بن موسى ، والإمام العلامة أبي العباس النقاوسي ، حضرت مجالسهم ، وعمدتي على الأولين ، ثم دخلت «تونس» عام تسعة أوائل عشرة وأصحاب ابن عرفة متوافرون ، فأخذت عنهم ، كشيخنا واحد زمانه أبي مهدي عيسى الغبريني ، وشيخنا الجامع بين علمي المنقول والمعقول أبي عبد الله الأبي ، وأبي القاسم البرزلي ، وأبي يوسف يعقوب الزغبي ، وغيرهم ، وأكثر عمدتي على الأبي ، ثم رحلت للمشرق ، وسمعت «البخاري» ب «مصر» على البلالي ، وكثيرا من اختصار «الإحياء» له ، وحضرت مجلس شيخ المالكية بها أبي عبد الله البساطي ، وحضرت كثيرا عند شيخ المحدثين بها ولي الدين العراقي ، وأخذت عنه علوما جمّة ، معظمها علم الحديث ، وفتح لي فتحا عظيما وأجازني ،
__________________
(١) روى هذه الآثار الحاكم في «علوم الحديث» ص ٧ ، ٨.