أذل كبرياءهم ، ومرغ انوفهم في الرغام ، وهم أصحاب الأنفة والحمية ، وإيثار الموت على إعطاء الدنية ، والفرار من المعركة مهما تكن قوة الخصم وكثرة رجاله ، وقوة سلاحه. إنّ ذلك حكم سماوي قاهر ، وقدر إلهي غالب محيط بالناس جميعا ..
لقد كانت آيات التحدي تقرع أسماع العرب ، وهم يشغبون على القرآن ، ويتصدون لدعوته ، فيولون بين يديه مدبرين مذعورين ، يصيحون صيحات المجانين ، ويهذون هذيان المحمومين ..
فإذا جاءهم القرآن الكريم قائلا : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١) .. لم يكن لهم من عزاء إزاء خزيهم المفضوح ، إلّا ترداد مثل هذه المقولات التي أخذها القرآن من أفواههم : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) (٢).
(لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٣).
(إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) (٤).
(أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٥).
ولقد وقف الرسول الكريم أكثر من عشر سنين بمكة ينتظر من المشركين أن يقوم منهم مدع يدعي أنه أتى بالسورة التي يتحدى بها دعوى القرآن ، فلم يقم منهم أحد ، حتى ولو كان على سبيل المكابرة والمداراة لهذه الكبرياء الجريحة .. فلما أوشكت الدعوة أن تتحول برسولها من مكة إلى المدينة ، نزل هذا الاعلان العام ، يحمل التحدي المطلق ، لا للناس وحدهم بل ولعالم الجن معهم ، فقال تعالى : (قُلْ لَئِنِ
__________________
(١) سورة البقرة : الآية ٢٣.
(٢) سورة المدثر : الآية ٢٤.
(٣) سورة الأنفال : الآية ٣١.
(٤) سورة النحل : الآية ١٠٣.
(٥) سورة الفرقان : الآية ٥.