ودعوى : أنّ العقل إذا استقلّ بحسن هذا الإتيان ثبت بحكم الملازمة الأمر به شرعا. مدفوعة ؛ لما تقدّم في المطلب الأوّل من أنّ الأمر الشرعيّ بهذا النحو من الانقياد ـ كأمره بالانقياد الحقيقي والإطاعة الواقعيّة في معلوم التكليف ـ إرشادي محض ، لا يترتّب على موافقته ومخالفته أزيد ممّا يترتّب على نفس وجود المأمور به أو عدمه ، كما هو شأن الأوامر الإرشاديّة ، فلا إطاعة لهذا الأمر الإرشادي ، ولا ينفع في جعل الشيء عبادة ، كما أنّ إطاعة الأوامر المتحقّقة لم تصر عبادة بسبب الأمر الوارد بها في قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) (٦).
ويحتمل الجريان بناء على أنّ هذا المقدار من الحسن العقلي يكفي في العبادة ومنع توقّفها على ورود أمر بها ، بل يكفي الإتيان به لاحتمال كونه مطلوبا أو كون تركه مبغوضا ؛ ولذا استقرّت سيرة العلماء والصلحاء فتوى وعملا على إعادة العبادات لمجرّد الخروج من مخالفة النصوص الغير المعتبرة والفتاوى النادرة. واستدلّ في الذكرى في خاتمة قضاء الفوائت على شرعيّة قضاء الصلوات لمجرّد احتمال خلل فيها موهوم بقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) و (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ.) (٧)
والتحقيق أنّه إن قلنا بكفاية احتمال المطلوبيّة في صحّة العبادة فيما لا يعلم المطلوبيّة ولو إجمالا ، فهو ، وإلّا فما أورده قدسسره في الذكرى كأوامر الاحتياط لا يجدي في صحّتها ؛ لأنّ موضوع التقوى والاحتياط الذي يتوقّف عليه هذه الأوامر لا يتحقّق إلّا بعد إتيان محتمل العبادة على وجه يجتمع فيه جميع ما يعتبر في العبادة حتّى نيّة التقرّب ؛ وإلّا لم يكن احتياطا ؛ فلا يجوز أن تكون تلك الأوامر منشأ للقربة المنويّة فيها.
اللهمّ إلّا أن يقال ـ بعد النقض بورود هذا الإيراد في الأوامر الواقعيّة بالعبادات مثل قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) (٨) ؛ حيث إنّ قصد القربة ممّا يعتبر في موضوع العبادة شطرا أو شرطا ، والمفروض ثبوت مشروعيّتها بهذا الأمر الوارد فيها ـ : إنّ المراد من الاحتياط والاتّقاء في هذه الأوامر هو مجرّد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نيّة القربة ، فمعنى الاحتياط بالصلاة الإتيان بجميع ما