قوله تعالى : واصطفاك علی نساء العالمين قد تقدم في قوله تعالى : إن الله اصطفى إلى قوله : على العالمين أن الاصطفاء المتعدي بعلى يفيد معنى التقدم ، وأنه غير الاصطفاء المطلق الذي يفيد معنى التسليم ؛ وعلى هذا فاصطفائها على نساء العالمين تقديم لها عليهن .
وهل هذا التقديم تقديم من جميع الجهات أو من بعضها ؟ ظاهر قوله تعالى فيما بعد الآية : إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك الآية ، وقوله تعالى : « وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ » الأنبياء ـ ٩١ وقوله تعالى : « وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ » التحريم ـ ١٢ ؛ حيث لم تشتمل مما تختص بها من بين النساء إلا على شأنها العجيب في ولادة المسيح عليهالسلام أن هذا هو وجه اصطفائها وتقديمها على النساء من العالمين .
وأما ما اشتملت عليه الآيات في قصتها من التطهير والتصديق بكلمات الله وكتبه ، والقنوت وكونها محدثة فهي امور لا تختص بها بل يوجد في غيرها ، وأما ما قيل : إنها مصطفاة على نساء عالمي عصرها فإطلاق الآية يدفعه .
قوله تعالى : يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ؛ القنوت هو لزوم الطاعة عن خضوع على ما قيل ، والسجدة معروفة . والركوع هو الانحناء أو مطلق التذلل .
ولما كان النداء يوجب تلفيت نظر المنادى ( اسم مفعول ) وتوجيه فهمه نحو المنادي ( اسم فاعل ) كان تكرار النداء في المقام بمنزلة أن يقال لها : إن لك عندنا نبأ بعد نبأ فاستمعي لهما وأصغي اليهما : أحدهما ما أكرمك الله به من منزلة وهو مالك عند الله ، والثاني ما يلزمك من وظيفة العبودية بالمحاذاة ، وهو ما لله سبحانه عندك ، فيكون هذا إيفائاً للعبودية وشكراً للمنزلة فيؤل معنى الكلام إلى كون قوله : يا مريم اقنتي « الخ » بمنزلة التفريع لقوله : يا مريم إن الله اصطفيك « الخ » أي إذا كان كذلك فاقنتي واسجدي واركعي مع الراكعين ، ولا يبعد أن يكون كل واحدة من الخصال الثلاث المذكورة في هذه الآية فرعاً لواحدة من الخصال الثلاث المذكورة في الآية السابقة ، وإن لم يخل عن خفاء فليتأمل .