وفي قولهم : آمنا به كل من عند ربنا ذكر الدليل والنتيجة معاً فإن كون المحكم والمتشابه جميعاً من عند الله تعالى يوجب الايمان بالكل : محكمه ومتشابهه ، ووضوح المراد في المحكم يوجب اتباعه عملاً ، والتوقف في المتشابه من غير رده لأنه من عند الله ولا يجوز اتباع ما ينافي المحكم من معانيه المتشابهة لسطوع البيان في المحكم فيجب أن يتبع من معانيه المحتملة ما يوافق معنى المحكم ، وهذا بعينه إرجاع المتشابه الى المحكم فقوله : كل من عند ربنا بمنزلة الدليل على الأمرين جميعاً ، أعني : الايمان والعمل في المحكم ، والايمان فقط في المتشابه والرجوع في العمل الى المحكم .
قوله تعالى : وما يذكر إلا اولوا الألباب ، التذكر هو الانتقال الى دليل الشيء لاستنتاجه ، ولما كان قولهم : كل من عند ربنا كما مر استدلالاً منهم وانتقالاً لما يدل على فعلهم سماه الله تعالى تذكراً ومدحهم به .
والألباب جمع لب وهو العقل الزكي الخالص من الشوائب ، وقد مدحهم الله تعالى مدحاً جميلاً في موارد من كلامه ، وعرَّفهم بأنهم أهل الايمان بالله والإنابة اليه واتباع أحسن القول ، ثم وصفهم بأنهم على ذكر من ربهم دائماً فأعقب ذلك أنهم أهل التذكر أي الانتقال الى المعارف الحقة بالدليل وأهل الحكمة والمعرفة ، قال تعالى : « وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ » الزمر ـ ١٨ ، وقال تعالى : « إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ » آل عمران ـ ١٩١ ، وهذا الذكر الدائم وما يتبعه من التذلل والخضوع هو الإنابة الموجبة لتذكرهم بآيات الله وانتقالهم الى المعارف الحقة كما قال تعالى : « وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ » الغافر ـ ١٣ ، وقد قال : « وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ » البقره ـ ٢٦٩ ، آل عمران ـ ٧ .
قوله
تعالى : ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب
لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ، وهذا من آثار رسوخهم في العلم فإنهم لما علموا بمقام ربهم ، وعقلوا عن الله
سبحانه أيقنوا أن الملك لله وحده ، وأنهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً فمن الجائز أن يزيغ قلوبهم بعد رسوخ العلم فالتجأوا الى ربهم ، وسألوه أن لا يزيغ قلوبهم بعد إذ هداهم ، وأن يهب لهم من لدنه رحمة تبقى لهم هذه النعمة ، ويعينهم على السير في