صراط الهداية ، والسلوك في مراتب القرب .
وأما سؤال أن يهبهم رحمة بعد سؤال أن لا يزيغ قلوبهم فلأن عدم إزاغة القلب لا يستلزم بقاء الرسوخ في العلم فمن الجائز أن لا يزاغ قلوبهم وينتزع عنها العلم فتبقى سدى مهملة لا سعداء بالعلم ولا أشقياء بالازاغة بل في حال الجهل والاستضعاف ، وهم في حاجة مبرمة الى ما هم عليه من العلم ، ومع ذلك لا تقف حاجتهم في ما هم عليه من الموقف بل هم سائروا طريق يحتاجون فيه الى أنواع من الرحمة لا يعلمها ولا يحصيها إلا الله سبحانه ، وهم مستشعرون بحاجتهم هذه ، والدليل عليه قولهم بعد : ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه .
فقولهم : ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، استعاذه من نزول الزيغ إلى قلوبهم وإزاحته العلم الراسخ الذي فيها ، وقولهم : وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب استمطار لسحاب الرحمة حتى تدوم بها حياة قلوبهم ، وتنكير الرحمة ، وتوصيفها بكونها من لدنه إظهار منهم الجهل بشأن هذه الرحمة ، وأنها كيف ينبغي أن تكون غير أنهم يعلمون أنه لولا رحمة من ربهم ولولا كونها من لدنه لم يتم لهم أمر .
وفي الاستعاذة من الزيغ الى الله محضاً واستيهاب الرحمة من لدنه محضاً دلالة على أنهم يرون تمام الملك لله محضاً من غير توجه الى أمر الأسباب .
قوله تعالى : ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب إن الله لا يخلف الميعاد ، هذا منهم بمنزلة التعليل لسؤال الرحمة ، وذلك لعلمهم بأن إقامة نظام الخلقة ودعوة الدين وكدح الإنسان في مسير وجوده كل ذلك مقدمة لجمعهم الى يوم القيامة الذي لا يغني فيه ولا ينصر أحد إلا بالرحمة كما قال تعالى : « إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ ، إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ » الدخان ـ ٤٢ ولذلك سألوا رحمة من ربهم وفوضوا تعيينها وتشخيصها اليه لينفعهم في أمرهم .
وقد وصفوا هذا اليوم بأنه لا ريب فيه ليتجه بذلك كمال اهتمامهم بالسؤال والدعاء ، وعللوا هذا التوصيف أيضاً بقولهم : إن الله لا يخلف الميعاد لأن شأنهم الرسوخ في العلم ، ولا يرسخ العلم بشيء ولا يستقر تصديق إلا مع العلم بعلته المنتجة ، وعلة عدم ارتيابهم في تحقق هذا اليوم هو ميعاد الله سبحانه به فذكروه .