القبلة كان من الامور الهامة التي كانت له تأثيرات عميقة مادية ومعنوية في حيوة أهل الكتاب ـ وخاصة اليهود ـ مضافاً إلى كونه مخالفاً لمذهبهم من النسخ ، ولذلك طالت المشاجرات والمشاغبات بينهم وبين المسلمين بعد نزول حكم القبلة إلى أمد بعيد .
والمستفاد من الآية ـ إن أول بيت « الخ » ـ أنهم جمعوا في شبهتهم بين شبهة النسخ وبين انتساب الحكم إلى ملة إبراهيم فيكون محصل الشبهة : أن الكعبة كيف يمكن أن يكون قبلة في ملة إبراهيم مع أن الله جعل بيت المقدس قبلة وهل هذا إلا القول بحكم نسخي في ملة إبراهيم الحقة مع كون النسخ محالاً باطلاً ؟
والجواب : أن الكعبة موضوعة للعبادة قبل غيرها كبيت المقدس فلقد بناها إبراهيم من غير شك ووضعها للعبادة ، وفيها آيات بينات تدل على ذلك كمقام إبراهيم ، وأما بيت المقدس فبانيه سليمان وهو بعد إبراهيم بقرون .
قوله تعالى : إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة إلى آخر الآية ، البيت معروف ؛ والمراد بوضع البيت للناس وضعه لعبادتهم وهو أن يجعلوه ذريعة يتوسل به إلى عبادة الله سبحانه ، ويستعان به فيها بأن يعبد الله فيه ، وبقصده والمسير اليه وغير ذلك ؛ والدليل على ذلك ما يشتمل عليه الكلام من كونه مباركاً وهدى للعالمين وغير ذلك ، ويشعر به التعبير عن الكعبة بالذي ببكة فإن فيه تلويحاً إلى ازدحام الناس عنده في الطواف والصلوة وغيرهما من العبادات والمناسك ، وأما كونه أول بيت بني على الأرض ووضع لينتفع به الناس فلا دلالة على ذلك من جهة اللفظ .
والمراد ببكة أرض البيت سميت بكة لازدحام الناس فيها ، وربما قيل إن بكة هي مكة ، وإنه من تبديل الميم باء كما في قولهم : لازم ولازب وراتم وراتب ونحو ذلك ، وقيل : هو اسم للحرم ، وقيل : المسجد ، وقيل : المطاف .
والمباركة مفاعلة من البركة وهي الخير الكثير
، فالمباركة إفاضة الخير الكثير عليه وجعله فيه ، وهي وإن كانت تشمل البركات الدنيوية والأخروية ، إلا أن ظاهر مقابلتها
مع قوله : هدىً للعالمين أن المراد بها إفاضة البركات الدنيوية وعمدتها وفور الأرزاق
وتوفر الهمم والدواعي إلى عمرانه بالحج اليه والحضور عنده والاحترام له وإكرامه فيؤول المعنى إلى ما يتضمنه قوله تعالى في دعوة إبراهيم : « رَّبَّنَا إِنِّي
أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي