بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ » إبراهيم ـ ٣٧ .
وكونه هدىً هو إرائته للناس سعادة آخرتهم ، وإيصاله إياهم إلى الكرامة والقرب والزلفى بما وضعه الله للعبادة ، وبما شرّع عنده من أقسام الطاعات والنسك ، ولم يزل منذ بناه إبراهيم مقصداً للقاصدين ومعبداً للعابدين .
وقد دل القرآن على أن الحج شرع أول ما شرع في زمن إبراهيم عليهالسلام بعد الفراغ من بنائه ، قال تعالى : « وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ » البقرة ـ ١٢٥ ، وقال : خطاباً لإبراهيم : « وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ » الحج ـ ٢٧ ، والآية كما ترى تدل على أن هذا الأذان والدعوة سيقابل بتلبية عامة من الناس الأقربين والأبعدين من العشائر والقبائل .
ودل أيضاً على أن هذا الشعار الإلهي كان على استقراره ومعروفيته في زمن شعيب عند الناس كما حكاه الله عنه في قوله لموسى عليهما السلام : « إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ » القصص ـ ٢٧ ، فقد أراد بالحج السنة وليس إلا لكون السنين تعد بالحج لتكررها بتكرره .
وكذا في دعوة إبراهيم عليهالسلام شيء كثير يدل على كون البيت لم يزل معموراً بالعبادة آية في الهداية ( راجع سورة إبراهيم ) .
وكان عرب الجاهلية يعظمونه ويأتون بالحج بعنوان أنه من شرع إبراهيم ، وقد ذكر التاريخ أن سائر الناس أيضاً كانوا يعظمونه ، وهذا في نفسه نوع من الهداية لما فيه من التوجه إلى الله سبحانه وذكره ، وأما بعد ظهور الإسلام فالأمر أوضح ، وقد ملأ ذكره مشارق الأرض ومغاربها ، وهو يعرض نفسه لأفهام الناس وقلوبهم بنفسه وبذكره ، وفي عبادات المسلمين وطاعاتهم وقيامهم وقعودهم ومذابحهم وسائر شؤونهم .
فهو هدى بجميع مراتب الهداية آخذة من الخطور الذهني إلى الانقطاع التام الذي لا يمسه إلا المطهرون من عباد الله المخلصين .