وقد كانت الأحكام والفرائض والحدود وسائر السياسات الإسلامية قائمة ومقامة في عهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يشذ منها شاذ ثم لم تزل بعد ارتحاله صلىاللهعليهوآلهوسلم تنقص وتسقط حكماً فحكماً ، يوماً فيوماً بيد الحكومات الإسلامية ، ولم يبطل حكم أو حد إلا واعتذر المبطلون : أن الدين إنما شرع لصلاح الدنيا وإصلاح الناس ، وما أحدثوه أصلح لحال الناس اليوم ، حتى آل الأمر إلى ما يقال : إن الغرض الوحيد من شرائع الدين إصلاح الدنيا باجرائها ، والدنيا اليوم لا تقبل السياسة الدينية ولا تهضمها بل تستدعي وضع قوانين ترتضيها مدنية اليوم وأجرائها ، وإلى ما يقال : إن التلبس بالأعمال الدينية لتطهير القلوب وهدايتها إلى الفكرة والارادة الصالحتين ، والقلوب المتدربة بالتربية الاجتماعية ، والنفوس الموقوفة على خدمة الخلق في غنى عن التطهر بامثال الوضوء والغسل والصلوة والصوم .
إذا تأملت في هذه وأمثالها ـ وهي لا تحصى كثرة ـ وتدبرت في قوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه من ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله الآية ، لم تشك في صحة ما ذكرناه ، وقضيت بأن هذه الفتن والمحن التي غادرت الإسلام والمسلمين لم تستقر قرارها إلا من طريق اتباع المتشابه ، وابتغاء تأويل القرآن .
وهذا ـ والله أعلم ـ هو السبب في تشديد القرآن الكريم في هذا الباب ، وإصراره البالغ على النهي عن اتباع المتشابه وابتغاء الفتنة والتأويل والالحاد في آيات الله والقول فيها بغير علم واتباع خطوات الشيطان فإن من دأب القرآن أنه يبالغ في التشديد في موارد سينثلم من جهتها ركن من أركان الدين فتنهدم به بنيته كالتشديد الواقع في تولي الكفار ، ومودة ذوي القربى ، وقرار أزواج النبي ، ومعاملة الربا ، واتحاد الكلمة في الدين وغير ذلك .
ولا يغسل رين الزيغ من القلوب ولا يسد طريق ابتغاء الفتنة الذين منشأهما الركون الى الدنيا والاخلاد الى الأرض واتباع الهوى إلا ذكر يوم الحساب كما قال تعالى : « وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ » ص ـ ٢٦ . ولذلك ترى الراسخين في العلم المتأبين تأويل القرآن بما لا يرتضيه ربهم يشيرون الى ذلك في خاتمة مقالهم حيث يقولون : ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد .