من الملوك في امور تختص برعيته ، كان من الواجب عليه أولا أن يقيم على دعواه دليلا يعضدها ، حين تشك الرعية في صدقه ، ولا بد من أن يكون ذلك الدليل في غاية الوضوح ، فإذا قال لهم ذلك السفير : الشاهد على صدقي أن الملك غدا سيحييني بتحيته الخاصة التي يحيي بها سفراءه الاخرين. فإذا علم الملك ما جرى بين السفير وبين الرعية ، ثم حياه في الوقت المعين بتلك التحية ، كان فعل الملك هذا تصديقا للمدعي في السفارة ولا يرتاب العقلاء في ذلك لان الملك القادر المحافظ على مصالح رعيته يقبح عليه أن يصدق هذا المدعي إذا كان كاذبا ، لانه يريد إفساد الرعية.
وإذا كان هذا الفعل قبيحا من سائر العقلاء كان محلا على الحكيم المطلق ، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى بقوله في كتابه الكريم :
« وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ٦٩ : ٤٤ ـ ٤٦ ».
والمراد من الاية الكريمة أن محمدا الذي أثبتنا نبوته ، وأظهرنا المعجزة لتصديقه ، لا يمكن أن يتقول علينا بعض الاقاويل ، ولو صنع ذلك لاخذنا منه باليمين ، ولقطعنا منه الوتين ، فإن سكوتنا عن هذه الاقاويل إمضاء منا لها ، وإدخال للباطل في شريعة الهدى ، فيجب علينا حفظ الشريعة في مرحلة البقاء ، كما وجب علينا في مرحلة الحدوث.
ولكن دلالة المعجز على صدق مدعي النبوة متوقفة على القول بأن العقل يحكم بالحسن والقبح. أما الاشاعرة الذين ينكرون هذا القول ، ويمنعون حكم العقل بذلك فلا بد لهم من سد باب التصديق بالنبوة. وهذا أحد مفاسد هذا القول ، وإنما لزم من قولهم هذا سد باب التصديق بالنبوة ، لان المعجز إنما يكون دليلا على صدق النبوة إذا قبح في العقل أن يظهر المعجز على يد الكاذب وإذا لم يحكم العقل بذلك لم يستطع أحد أن يميز بين الصادق والكاذب.