وعلى هذا جرت الصحابة والتابعون خلفا عن سلف ، فكانوا يزورون قبر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ويتبركون به ويقبلونه ، ويستشفعون برسول الله ، كما كانوا يستشفعون به في حياته. وهكذا كانوا يفعلون مع قبور أئمة الدين وأولياء الله الصالحين ، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة ، ولا أحد من التابعين أو الاعلام ، إلى أن ظهر أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحراني فحرم شد الرحال إلى زيارة القبور ، وتقبيلها ، ومسها ، والاستشفاع بمن دفن فيها ، حتى أنه شدد النكير على من زار قبر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن تبرك به بتقبيل أو لمس ، وجعل ذلك من الشرك الاصغر تارة ومن الشرك الاكبر أخرى.
ولما رأى علماء عصره عامة أنه قد خالف في رأيه هذا ما ثبت من الدين ، وضرورة المسلمين ، لانهم قد رووا عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حثه على زيارة المؤمنين عامة وعلى زيارته خاصة بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : من زارني بعد مماتي كان كمن زارني في حياتي وما يؤدي هذا المعنى بألفاظ أخر (١) تبرأوا منه ، وحكموا بضلاله ، وأوجبوا عليه التوبة ، فأمروا بحبسه إما مطلقا أو على تقدير أن لا يتوب.
والذي أوقع ابن تيمية في الغلط ـ إن لم يكن عامدا لتفريق كلمة المسلمين ـ وهو تخيله أن الامور المذكورة شرك بالله ، وعبادة لغيره. ولم يدرك أن هؤلاء الذين يأتون بهذه الاعمال يعتقدون توحيد الله ، وأنه لا خالق ولا رازق سواه ، وأن له الخلق والامر ، وإنما يقصدون بأفعالهم هذه تعظيم شعائر الله ، وقد علمت أنها راجعة إلى تعظيم الله والخضوع له والتقرب إليه سبحانه ، والخلوص لوجهه الكريم ، وأنه ليس في ذلك أدنى شائبة للشرك ، لان الشرك ـ كما عرفت ـ أن يعبد الانسان غير الله. والعبادة إنما تتحقق بالخضوع لشئ على أنه رب يعبد ، وأين هذا من تعظيم النبي الاكرم وأوصيائه الطاهرين (ع) بما
__________________
١ ـ انظر التعليقة رقم (١٧) للوقوف على الروايات التي استفاضت في جواز زيارة القبور ، وقد ذكر جملة منها عبد السلام بن تيمية ـ في قسم التعليقات.