الطريق الأوّل : فيما إذا صارت وسيلة لإثبات قضيّة عقليّة والبرهنة عليها ، أي أنّها وقعت موردا للبحث من أجل إثبات إمكان أو استحالة القضيّة الفعليّة التركيبيّة ، والتي هي من القواعد الأصوليّة كما تقدّم آنفا ، وأمّا هي نفسها فمجرّد التحليل والبحث عن تفسير ظاهرة من الظواهر ليس أصوليّا في نفسه ، وإنّما يصبح كذلك فيما إذا أدّى البحث التحليلي إلى إثبات القضيّة التركيبيّة إمكانا أو استحالة ، فتصبح أصوليّة لذلك.
ومثاله : البحث التحليلي عن حقيقة الحكم المجعول على نحو القضيّة الحقيقيّة ، فإنّه يشكّل برهانا على القضيّة العقليّة التركيبيّة القائلة باستحالة أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه.
وتوضيح ذلك أن يقال : إنّ الأحكام الشرعيّة منصبّة على موضوعاتها بنحو القضيّة الحقيقيّة ، بمعنى أخذ الموضوع مقدّرا ومفترض الوجود في عالم الجعل والتشريع والاعتبار ، والموضوع هو كلّ المقدّمات والقيود والشروط التي يتوقّف عليها فعليّة الحكم المجعول.
فوجوب الحجّ على المستطيع لا يكون فعليّا إلا إذا تحقّق في الخارج إنسان مستطيع ، وأمّا قبل وجود الإنسان المستطيع فلا يكون الحجّ فعليّا ، وإنّما هو حكم شرعي موجود في عالم الجعل والإنشاء والاعتبار فقط ؛ لأنّ مثل هذا الحكم بالتحليل العقلي يرجع إلى قضيّة حقيقيّة مفادها : أنّه إذا وجد إنسان مستطيع في الخارج فيجب عليه الحج.
ومن هنا لم يكن وجوب الحجّ داعيا إلى إيجاد وتحقيق موضوعه في الخارج ، فوجوب الحجّ لا يسبّب ولا يدعو إلى أن يجعل الإنسان نفسه مستطيعا. نعم ، بعد أن يصبح مستطيعا يدعوه وجوب الحجّ إلى إيجاد الحجّ في الخارج ، فوجوب الحجّ يدعو إلى إيجاد متعلّقه لا إلى إيجاد موضوعه.
وبهذا البحث التحليلي للعلاقة بين الحكم والموضوع نخرج بنتيجة وهي : أنّ وجوب الحجّ لا يدعو إلى إيجاد موضوعه ، بل إلى إيجاد متعلّقه فقط ؛ وذلك لأنّ وجوب الحجّ مسبّب عن الموضوع ، والمسبّب لا يدعو إلى إيجاد السبب. نعم ، وجوب الحجّ يدعو إلى إيجاد متعلّقه وهو الحجّ في الخارج ؛ لأنّه سبب إليه والسبب يدعو إلى إيجاد المسبّب بعد فرض صيرورته فعليّا من جميع الجهات.