لا في عالم الجعل والاعتبار ؛ لأنّ الجعل قد يحدّد به المولى مركز حقّ الطاعة على نحو يكون مغايرا لمركز حبّ الأصيل ؛ لما تقدّم في بداية هذه الحلقة (١) من أنّ المولى له أن يحدّد مركز حقّ الطاعة في مقدّمات مراده الأصيل بجعل الإيجاب عليها لا عليه ، فتكون هي الواجبة في عالم الجعل دونه.
وقد يشكل بأنّ تلك المصالح والفوائد كيف لا تكون واجبة ، مع أنّ الواجبات الشرعيّة كالصلاة والصيام ونحوها إنّما أوجبها الشارع من أجل تلك المصالح ، فكانت هي السبب الباعث على تشريع تلك الواجبات؟
والجواب عن ذلك : هو أنّ الإيجاب يمثّل العنصر الثالث من مبادئ الحكم في عالم الثبوت ، كما تقدّم مفصّلا في بداية هذه الحلقة ، حيث قلنا بأنّ الشارع عند ما يريد أن يجعل الحكم فهو يمرّ في ثلاث مراحل ، هي : الملاك والإرادة والاعتبار.
والملاك : هو المصالح أو المفاسد التي تتعلّق بالفعل وعلى ضوء ذلك يحصل الشوق والحبّ المولوي فتنشأ المحبوبيّة أو المبغوضيّة.
ثمّ بعد ذلك يأتي دور الاعتبار ، وفي هذا اللحاظ يجعل الشارع الإيجاب أو التحريم ، ولكن الاعتبار يستخدمه الشارع من أجل تحديد مركز حقّ الطاعة ولكنّه ليس ضروريّا ، بمعنى أنّ الشارع إذا أحبّ شيئا وأراده فليس من الضروري أن يوجبه على المكلّف ويجعله مصبّا لحقّ الطاعة ، بل قد يوجبه أو يوجب مقدّماته التي يرى أنّها تؤدّي إليه لا محالة.
ومن هنا كان دور الاعتبار والذي يعبّر الإيجاب عنه هو تحديد ما يجعله المولى داخلا في حقّ الطاعة ، ولهذا فقد يتّحد الاعتبار مع ما أحبّه المولى وقد يغايره.
فإذا أوجب المقدّمات فهذا يعني أنّها هي الواجبة دون أصل الشيء الذي أحبّه وأراده ، ولا يكون المكلّف مسئولا إلا عمّا أوجبه الشارع ؛ لأنّه هو الذي حدّده داخلا في حقّ الطاعة دون أصل الشيء ، وإن كان أصل الشيء محبوبا بدرجة أقوى ، ولكن في عالم الحبّ والشوق والإرادة فقط دون عالم الإيجاب والجعل والاعتبار.
وبهذا يظهر الجواب عن الإشكال ، فإنّ كون المصالح والفوائد محبوبة للمولى لا يعني أنّها واجبة ؛ لأنّ الإيجاب فعل اختياري للمولى يبرز ما هو داخل في دائرة حقّ
__________________
(١) في البحث عن الحكم الشرعي وتقسيماته ، تحت عنوان : الحكم الواقعي والظاهري.