والحاصل : أنّ العقلاء يحكمون بمدح من يفعل الإحسان أو الصدق ، وبذمّ من يفعل الخيانة والكذب ، فالعدل حسن ؛ لأنّ فاعله ممدوح عند العقلاء ، والظلم قبيح ؛ لأنّ فاعله مذموم لدى العقلاء. ووجه الذمّ والمدح هو رعاية المصلحة في حفظ النظام ، أو النوع البشري ، أو وجود المفسدة على النظام والنوع البشري.
وهذان الحكمان العقلائيّان كغيرهما من الأحكام العقلائيّة الأخرى من حيث الجعل الاعتباري ، ولكن هذان الأمران متّفق عليهما من العقلاء كافّة في كلّ زمان ومكان ، بينما بقيّة الأحكام العقلائيّة قد يختلف حالها وحكمها باختلاف أحوال الناس واختلاف العصور والأمكنة والعادات والتقاليد ، ممّا يؤثّر على الاختلاف في تشخيص المصالح والمفاسد بنظر العقلاء أو في خفائها أيضا.
وهذا التفسير خاطئ وجدانا وتجربة.
أمّا الوجدان فهو قاض بأنّ قبح الظلم ثابت بقطع النظر عن جعل أيّ جاعل كإمكان الممكن.
وأمّا التجربة فلأنّ الملحوظ خارجيّا عدم تبعيّة الحسن والقبح للمصالح والمفاسد ، فقد تكون المصلحة في القبيح أكثر من المفسدة فيه ، ومع هذا يتّفق العقلاء على قبحه ، فقتل إنسان لأجل استخراج دواء مخصوص من قلبه يتمّ به إنقاذ إنسانين من الموت إذا لوحظ من زاوية المصالح والمفاسد فقط فالمصلحة أكبر من المفسدة ، ومع هذا لا يشكّ أحد في أنّ هذا ظلم وقبيح عقلا.
فالحسن والقبح إذا ليسا تابعين للمصالح والمفاسد بصورة بحتة ، بل لهما واقعيّة تلتقي مع المصالح والمفاسد في كثير من الأحيان وتختلف معها أحيانا.
الردّ على القول بأنّ الحسن والقبح مجعولان عقلائيّان :
أوّلا بالوجدان ، فإنّ العقل يحكم بحسن العدل وقبح الظلم بقطع النظر عن وجودهما في الخارج وصدورهما من الإنسان ، فإنّه بأدنى تأمّل فيهما يدرك حسن الأوّل وقبح الثاني ، ولا يحتاج ذلك إلى برهان ولا إلى تعلّم ولا إلى عادات وتقاليد ؛ نظير إمكان الممكن ، فإنّ العقل بمجرّد أن يلتفت إلى كونه ممكنا يحكم بإمكانه سواء صدر ووقع في الخارج أم لا ، بل هذا الحكم ثابت حتّى لو لم يوجد إنسان في الخارج أصلا ، وليس ذاك إلا لأنّه موجود في الواقع وعالم الأمر.