نعم ، دور العقلاء هنا هو إدراك ما هو واقع وكائن بعقولهم لا باتّفاقهم وعاداتهم ونحوها.
وثانيا بالتجربة ، فإنّنا نستقرئ عدّة مفردات موجودة وواقعيّة ويحكم العقل بحسنها أو بقبحها من دون أن يكون ذلك تابعا لمصلحة أو مفسدة فيها. فلو كان الحسن والقبح تابعين للمصالح والمفاسد لم يكن سبيل للحكم بحسنها وقبحها أصلا ، مع أنّ العقلاء يحكمون بذلك بلا إشكال ، وهذا يدلّ على أنّ الحسن والقبح يتجرّدان عن المصالح والمفاسد ، فهما ليسا تابعين لها بل هما صفتان للفعل في نفسه وذاته ، ممّا يعني أنّهما وصفان واقعيّان يحكم بهما العقل.
فمثلا : قد تفرض المصلحة في القبيح أكثر من المفسدة الموجودة فيه ، ومع ذلك يحكم العقل والعقلاء بقبحه لا بحسنه.
فإذا كان قتل إنسان واحد فيه مصلحة إنقاذ شخصين من الموت ، فهنا المصلحة في قتله أكبر من المفسدة ، ولكن مع ذلك يحكم بكون قتله قبيحا بقطع النظر عن أي شيء آخر ، وحكمهم بالقبح هنا لا يتناسب مع ما قيل : من أنّ القبح تابع للمفاسد التي يراها العقلاء ، فإنّهم هنا يرون المصلحة الكبيرة ولكنّهم يحكمون بالقبح ، وليس ذاك إلا لأنّ القتل للنفس المحترمة في نفسه ظلم وهو قبيح ذاتا.
نعم ، في كثير من الأحيان يكون القبيح ناشئا من المفسدة ، والحسن ناشئا من المصلحة ، ولكنّهما ليسا تابعين للمصالح والمفاسد دائما ، وهذا يكفي للردّ على ما ذكر من كونهما مجعولين عقلائيّين.
والمشهور بين علمائنا الملازمة بين الحكم العملي العقلي والحكم الشرعي.
وهناك من ذهب (١) إلى استحالة حكم الشارع في موارد الحكم العملي العقلي بالحسن والقبح ، فهذان اتّجاهان :
أمّا الاتّجاه الأوّل : فقد قرّب بأنّ الشارع أحد العقلاء وسيّدهم ، فإذا كان العقلاء متطابقين بما هم عقلاء على حسن شيء وقبحه فلا بدّ أن يكون الشارع داخلا ضمن ذلك أيضا.
__________________
(١) كصاحب الفصول في الفصول : ٣٣٧ ، ونسبه المحقّق النائيني في فوائد الأصول ٣ : ٦٠ إلى بعض الأخباريّين أيضا.