التي تجري منها الأنهار العظيمة والأودية الوسيعة ، وربما كان فيه من البرد مثل الجبال ، كل ذلك في ساعة واحدة ثم تنقشع السماء وتبدو الكواكب وتطلع الشمس أو القمر كأن ما كان لم يكن من غير تراخ ولا زمان بعيد ، فيعلم ببديهة أنه لا بد أن يكون من صح ذلك منه قادراً عليه ممكن منه ، وأنه مخالف له ولأمثاله ، فيكون عند ذلك عارفاً بالله . وأمثال ذلك كثيرة لا نطول بذكره .
فمتى عرف الإنسان هذه الجملة وفكر فيها هذا الفكر واعتقد هذا الإعتقاد ، فإن مضى على ذلك ولم يشعثه خاطر ولا طرقته شبهة فهو ناج متخلص .
وأكثر من أشرتم إليه يجوز أن يكون هذه صفته ، وإن بحث عن ذلك وعن علل ذلك فطرقته شبهات وخطرت له خطرات وأدخل عليه قوم ملحدون ما حيره وبلبله فحينئذ يلزمه التفتيش ولا تكفيه هذه الجملة ، ويجب عليه أن يتكلف البحث والنظر على ما سنبينه ليسلم من ذلك ويحصل له العلم على التفصيل .
ونحن نبين ذلك في الفصل الذي يلي هذا الفصل على ما وعدنا به إنشاء الله .
فإن قيل : أصحاب الجُمَل ( بضم الجيم أي أصحاب المعرفة الإجمالية ) على ما ذكرتم لا يمكنهم أن يعرفوا صفات الله تعالى وما يجوز عليه وما لا يجوز عليه منها على طريق الجملة ، وإذا لم يمكنهم ذلك لم يمكنهم أن يعلموا أن أفعاله كلها حكمة ولا حسن التكليف ولا النبوات ولا الشرعيات ، لأن معرفة هذه الأشياء لا يمكن إلا بعد معرفة الله تعالى على طريق التفصيل .
قلنا : يمكن معرفة جميع ذلك على وجه الجملة ، لأنه إذا علم بما قدمناه من الأفعال ووجوب كونه قادراً عالماً ، وعلم أنه لا يجوز أن يكون قادراً بقدرة محدثة لأنها كانت تجب أن تكون من فعله ، وقد تقرر أن المحدث لا بد له من محدث ، وفاعلها يجب أن يكون قادراً أولاً ، فلولا تقدم كونه قادراً قبل ذلك لما صح منه تعالى فعل القدرة ، فيعلم أنه لم يكن قادراً بقدرة محدثة ، ولأجله علم أنه كذلك لأمر لا اختصاص له بمقدور دون مقدور ، فيعلم أنه يجب أن يكون قادراً على جميع الأجناس ومن كل جنس على ما لا يتناهى لفقد التخصيص .