لا يقال : ليس تولي الشئ ما تولاه عدلاً حيث لا يكون ذلك التولي عن رشد وبصيرة فإن السفيه قد يختار لنفسه ما هو شر بالنسبة إليه وضر لجهله وسفاهته ، فالعدل والشفقة عليه منعه إياه .
لأنا نقول : هذا التولي والتوجيه الذي كلامنا فيه أمر ذاتي لا يحكم عليه بالخير والشر بل هو قبلهما ، لأن ما يختاره السفيه إنما يعد شراً بالقياس إليه لأنه مناف لذاته بعد وجوده ، فلذاته اقتضاء أول متعلق بنقيض هذه السفاهة ، فذلك هو الذي أوجب أن يسمى ذلك شراً بالقياس إليه .
وأما الإقتضاء الأول الذي كلامنا فيه فلا يمكن وصفه بالشر ، لأنه لم يكن قبله اقتضاء يكون هذا بخلافه فيوصف بأنه شر ، بل هو الإقتضاء الذي جعل الخير خيراً ، لأن الخير لشئ ليس إلا ما يقتضيه ذاته . والتولي الذي كلامنا فيه هو الإستدعاء الذاتي الأزلي والسؤال الوجودي الفطري الذي يسأله الذات المطيعة السامعة لقول كن ، وقوله ليس أمر قسر وقهر ، لأن الله عز وجل غني عن العالمين ، فكأنه قال لربه إئذن لي أن أدخل في عدلك وهو الوجود ، فقال الله تعالى كن .
ـ تفسير الميزان ج ٢ ص ٣٤٦
لكن يمكن أن يقال إن الإنسان بحسب خلقته على نور الفطرة هو نور إجمالي يقبل التفصيل ، وأما بالنسبة إلى المعارف الحقة والأعمال الصالحة تفصيلاً فهو في ظلمة بعد لعدم تبين أمره . والنور والظلمة بهذا المعنى لا يتنافيان ولا يمتنع اجتماعهما ، والمؤمن بإيمانه يخرج من هذه الظلمة إلى نور المعارف والطاعات تفصيلاً ، والكافر بكفره يخرج من نور الفطرة إلى ظلمات الكفر والمعاصي التفصيلية .
والإتيان بالنور مفرداً وبالظلمات جمعاً في قوله تعالى : يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ، وقوله تعالى : يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ، للإشارة إلى أن الحق واحد لا اختلاف فيه كما أن الباطل متشتت مختلف لا وحدة فيه ، قال تعالى : وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ . . . . الأنعام ـ ١٥٣