ويمكن أن يستأنس في ذلك بأمر آخر وهو : أن الإنسانية وإن اندفعت بالفطرة إلى الإجتماع والمدنية لإسعاد الحياة ، وأثبت النقل والبحث أن رجالاً أو أقواماً اجتماعيين دعوا إلى طرائق قومية أو وضعوا سنناً اجتماعية وأجروها بين أممهم كسنن القبائل والسنن الملوكية والديمقراطية ونحوها ، ولم يثبت بنقل أو بحث أن يدعو إلى عرفان النفس وتهذيب أخلاقها أحد من غير أهل الدين في طول التاريخ البشري .
نعم من الممكن أن يكون بعض أصحاب هذه الطرق غير الدينية كأصحاب السحر والأرواح ونحوهما إنما تنبه إلى هذا النوع من عرفان النفس من غير طريق الدين ، لكن لا من جهة الفطرة ، إذ الفطرة لا حكم لها في ذلك كما عرفت ، بل من جهة مشاهدة بعض الآثار النفسانية الغريبة على سبيل الإتفاق ، فتتوق نفسه إلى الظفر بمنزلة نفسانية يملك بها أعمالاً عجيبة وتصرفات في الكون نادرة تستغربها النفوس ، فيدفعه هذا التوقان إلى البحث عنه والسلوك إليه ، ثم السلوك بعد السلوك يمهد السبيل إلى المطلوب ويسهل الوعر منه .
يحكى عن كثير من صلحائنا من أهل الدين أنهم نالوا في خلال مجاهداتهم الدينية كرامات خارقة للعادة ، وحوادث غريبة اختصوا بها من بين أمثالهم كتمثل أمور لأبصارهم غائبة عن أبصار غيرهم ، ومشاهدة أشخاص أو وقائع لا يشاهدها حواس من دونهم من الناس ، واستجابة للدعوة وشفاء المريض الذي لا مطمع لنجاح المداواة فيه ، والنجاة من المخاطر والمهالك من غير طريق العادة .
وقد يتفق نظائر ذلك لغير أهل الصلاح إذا كان ذا نية صادقة ونفس منقطعة ، فهؤلاء يرون ما يرون وهم على غفلة من سببه القريب ، وإنما يسندون ذلك إلى الله سبحانه من غير توسيط وسط .
واستناد الأمور إليه تعالى وإن كان حقاً لا محيص عن الإعتراف به ، لكن نفي الأسباب المتوسطة مما لا مطمع فيه .